سوف يسجل التاريخ أن دولة الاحتلال مثلُت امام محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة ارتكاب إبادة جماعية ضد ابناء الشعب الفلسطيني في غزة، وأهمية هذا الحدث يكمن في أن دولة الاحتلال التي اكتسبت عناصر وجودها وشرعيتها «كدولة» قامت على «رواية الهولوكوست» و"الإبادة الجماعية» والمظلومية التاريخية التي وقعت على «اليهود في أوروبا» ها هي تُحاكم على ذات الاسباب التى عززت وجودها في مفارقة تاريخية نادرة.
هذا الكيان وبعد 75 سنة من قيامه، يقف متهماً بإبادة جماعية للفلسطينين في غزة، أما الجهة التي تحاكمه هي جنوب أفريقيا التي لها رمزيتها الإنسانية باعتبارها مثالاً صارخاً على التحرر من التمييز العنصري والإبادة الجماعية بقيادة نلسون مانديلا رمز الحرية على مستوى الإنسانية.
مجتمع دولة الاحتلال برمته يعيش هول صدمة المحكمة والتهمة التى التصقت به وبدولته وجيشه الذي يسميه «الجيش الاكثر اخلاقية في العالم»، فشعب الله المختار لا يمكن إلا أن يكون جيشه أكثر اخلاقية وهي «كذبة بات العالم يدرك مدى انحطاطها وبؤسها بعد أن فضحته الفظائع التي تنقلها الفضائيات العربية والعالمية عما جرى ويجرى في قطاع غزة منذ السابع من اكتوبر وحتى اللحظة، ومن هول الصدمة خرج نتياهو عن طوره ووصف المحكمة والمحاكمة بأنها حالة نفاق كبرى وانحطاط أخلاقي حتى قبل عقد جلستها الأولى وبعد بدئها وعندما يصف نتنياهو المعروف بقدراته وشطارته «في التضليل اللفظي والإعلامي خلال الأزمات المحكمة بأنها تشكل عملية نفاق فهذا يدلل على نقطتين مهمتين: الأولى: استشعاره مدى الخسارة المعنوية «للدولة الأكثر أخلاقاً بالعالم» وكيف أنها تقف أمام العالم لتحاكم باقبح جريمة أخلاقية إلا وهي الإبادة الجماعية.
الثانية: المحاكمة وبغض النظر عن النتائج التى ستتوصل إليها هي بكل بساطة تشكل عملية هدم كاملة لأقوى الأسلحة التي طالما استخدمتها دولة الاحتلال لترهب فيها من ينتقدها أو يعاديها وأبرز تلك الأسلحة قضية الهولوكوست، والتي إلى اللحظة تبتز بها أوروبا وتحديداً ألمانيا وقضية معاداة السامية، فبعد اليوم لا يستطيع مجتمع دولة الاحتلال التحدث «عن طهارته» أو «أخلاقه» كما لا يستطيع الاستمرار في وصف نفسه بأنه شعب الله المختار وأنه تعرض لأكبر عملية إبادة ومظلومية، وهي كما يعلم الجميع كلها عناصر الدعاية «الإسرائيلية» التي أرهب بها العالم على مدى 75 عاماً، وتسلل من تحتها للقيام بأكبر عملية سرقة في التاريخ ولارتكاب أبشع المجازر بحق ابناء الشعب الفلسطيني وما زال.
لا أريد الدخول في تفاصيل القضايا القانونية التي ظهرت من خلال مرافعة جنوب أفريقيا ومرافعة دولة الاحتلال يومي الخميس والجمعة الفاءتين، ولكن أود التوقف عند بعض النقاط في المحاكمة ألا وهي: أولاً: الارتباك الواضح في «دفوع» فريق الاحتلال وتهربه من مناقشة فحوى التهمة والبراهين الموثقة التي أوردها فريق جنوب أفريقيا وقيام فريق الاحتلال بالتركيز على مسائل شكلية مثل أن جنوب أفريقيا لم تتصل بالاحتلال لمناقشة القضية قبل رفع القضية والمسالة الثانية محاولة الطعن بقبول الشكوى والقول ان محكمة العدل العليا ليست هي الجهة المختصة ببحث القضية، هذا عدا عن التشكيك الذي سبق المرافعة من قبل السياسيين الإسرائيليين ووسائل الإعلام الاسرائيلية بجنوب أفريقيا واتهامها بأنها ذراع لحركة حماس، وهي تهمة مضحكة تدلل على خفة سياسية.
ثانياً: في المقابل كانت مرافعة جنوب أفريقيا مهنية لدرجة كبيرة وموثقة ومستندة إلى أرقام وتقارير لمنظمات تابعة للأمم المتحدة مثل منظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الأنسان و"الانروا» ومنظمة الأغذية العالمية و"اليونسيف» و"اليونسكو» وغيرها من المنظمات الدولية بالإضافة لمنظمات حقوقية مرموقة غير حكومية مثل «هيومن رايتس وتش» وصحفيون بلا حدود، ومنظمة «امنستي» وغيرها، وقد علق لي كل من الدكتور انيس قاسم الخبير بالقانون الدولي، والأستاذ الدكتور فيصل الفريحات المحامي والخبير بالقانون الدولي أن ما قدمته دولة جنوب أفريقيا مطالعة شاملة كتبت بدقة وبحرفية واستندت لوقائع وأرقام وشهادات دولية ولم تستند لأي جهة فلسطينية أو عربية.
الجانب الإسرائيلي غلبت على دفوعه اللغة السياسية والاتهامية والتلفيق وكان كل همه أن ترفض المحكمة بند الاجراءات الوقائية أو الاحترازية أي وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات لقطاع غزة، لأنه لا يريد ووفقاً لما صرح به نتنياهو وقادة الاحتلال مراراً وتكراراً أن توقف لأن وقفها يعني «انتصاراً لحماس».