تتالتومنذ ما بعد اليوم الخامس لطوفان الأقصى، الضربات التي تلقتها روايتهم، سواء على وسائل الإعلام أو شبكات التواصل الصهيونية أو المتصهينة، اي تلك الغربية التي تلتقط كل ما يقوله الصهاينة وكانه حقيقة مسلم بها، حتى بات زيف تلك الرواية وأكاذيب الصهاينة والمتصهينين مفضوح عالمياً ويثير السخرية لفجاجته . اكاذيب نتياهو ومنذ اليوم الأول حول (حرق الأطفال أحياء وقطع رؤوسهم) (اغتصاب النساء)، التقاط بايدن وبلينكن ذات الرواية عن قطع الرؤوس، وترديدها بببغاوية دون تمحيص، وحتى بعدما أعلن البيت الأبيض ان بايدن لم ير صوراً تثبت ذلك، فضح الصحفي جاكسون هينكل لحقيقة صورة الطفل المحروق التي حملها نتنياهو، وإثبات أنها لكلب محروق متحصل عليه من عيادة بيطرية، انهزامهم في (حرب الصورة) على شبكات التواصل والفضائيات، بعد الصور المثيرة لمذابح الأطفال والنساء والمدنيين عموماً، شهادات النساء من مستعمرات غزة سواء ام الطفلين أو العجوز التي كانت محتجزة لدى المقاومة، وقد اشادت الإثنتان بأخلاقيات المقاومين، ما خلق هستيريا لدى مسؤولي وإعلاميي الصهاينة، والتصدي العلني لاكاذيب روايتهم وفضحها على شبكات مهمة ومنحازة تاريخياً لروايتهم مثل مقابلات السفير زعمط مع الصحافة البريطانية، والملكة رانية العبد الله على السي إن إن، والعديد من المواقف المحتجة على الهواء مباشرة مع مراسلي شبكات تلفزيونية عالمية، وأخيراً فضائح شبكة BBC البريطانية وطردها لموظفيها المتعاطفين مع شعبنا، والفيديو المفبرك ل CNN. كان يكفي الصراخ في وجوههم: (هاتوا صورة واحدة تثبت ما تقولون)، كما صرخ ذلك الأمريكي العجوز المتضامن في وجه مراسلة Fox News، حتى تتبعثر أكاذيبهم تماماً.
إبادة، تطهير، جرائم حرب وضد اللإنسانية
تلكم سلسلة من المعطيات، على سبيل المثال لا الحصر قطعاً، التي أمكن رصدها طوال اسبوعين توضح تلك الضربات الإعلامية غير المسبوقة التي تعرضت لها الرواية الصهيونية على النطاقين، الصهيوني والغربي. إن الأثر المباشر لتلك الضربات هو التفهم المتزايد لروايتنا الوطنية واتضاح مصداقيتها، وما يؤكد ذلك، ونعتبره في غاية الأهمية، هو سلسلة المصطلحات التي باتت تغزو الإعلام الفضائي، وإعلام شبكات التواصل في العالم الغربي، والتي تعيد حقيقة الممارسات الصهيونية لسكتها الصحيحة.
هناك تراجع واضح في استخدام مصطلح (الانتهاكات الإسرائيلية) كمصطلح قانوني/ حقوقي، كان مهيمناً في الخطاب الإعلامي الوصفي لممارسات الاحتلال، وهو إن كان يعكس في المرحلة السابقة حقيقة التضامن مع شعبنا، إلا أنه ومع حجم الجرائم في القطاع لم يعد هذا المصطلح كافيلاً لوصف الجريمة.
إبادة جماعية، تطهير عرقي، جريمة حرب، جرائم ضد الإنسانية، باتت مصطلحات مستخدمة لوصف الممارسات الصهيونية، والاهم انه يتم ربطها ليس فقط بما يجري منذ بدء العدوان الصهيوني على القطاع، لا بل ومنذ نشوء النكبة الفلسطينية قبل 75 عاما. برواية أخرى فتلك المطلحات عبر شبكات التواصل والإعلام المتضامن والنشاطات الاحتجاجية والمحاججات التلفزيونية تعيد الصراع لحقيقته التاريخية، وأن الصراع لم يبدأ مع 7 أوكتوبر، وهو بكل الأحوال ليس صراعاً بين (إسرائيل وحماس)، كما يروج الإعلام الصهيوني والمتصهين، بل بين المشروع الصهيوني الاستعماري والشعب الفلسطيني وحركته التحررية.
ذلك ما اعتقده المتغير الأبرز في حرب الإعلام في اللحظة الحالية، وما الإعلام بمعنى من المعاني إلا صورة وكلمة، وفي الحالتين جرى هزيمة روايتهم، فلم تعد الحرب التي تُشن على أهل غزة (حرباً لتصفية حماس الإرهابية)، بل إبادة وتطهير وجريمة حرب وضد الإنسانية، ولم تعد صورهم المفبركة وأكاذيبهم تفيدهم، حتى لو قُدمت بطريقة مسرحية مثل طريقة الممثل الفاشل أفخاي إدرعي مع علم داعش، بل إن صور الدمار الذي ألحقوه بالقطاع وصور اكثر من 2500 طفل ذبحوهم، غطّت على صورهم وفضحت أكاذيبهم. إن صوت الأم المكلومة بابنها يوسف الجميل وهي تبحث عنه (شعرو كيرلي وأبيضاني وحلو) وقد استشهد (وهو جوعان)، كانت ربما لوحدها كفيلة بدحر أكاذيبهم وفضح جرائمهم.
محددات روايتهم المهزومة
منذ قيام كيانهم تحددت معالم الرواية الصهيونية ببضعة مفاهيم/ محاججات اساسية جرى ويجري ضخها يومياً، ليس فقط عبر إعلامهم، بل وتبناها الإعلام الغربي بطريقة تفتقد للحد الأدنى من المهنية، بل وترتقي لمستوى التبعية الكاملة والتي تجعل من ادعاء المهنية والموضوعية محض كذبة تافهة، تبني انفضح، على سبيل المثال لا الحصر، هو الأخر بفعل سلوك ال BBC مع موظفيها و CNN مع فبركاتها المخجلة.
كان الهولوكوست وما زال الركيزة الأساس في كل معمار الرواية الصهيونية، ليس في وظيفته الاستخدامية التي وظفها الصهاينة ببراعة في ابتزاز الدعم والتأييد لإنشاء الكيان، وفي حلب مئات المليارات التي دفعتها ألمانيا لإسرائيل، وكأنها ممثل يهود العالم علماً أنها على الأقل ديموغرافياً ليست كذلك، تكفيراً عن جريمتها بحقهم، ما لعب دوراُ رئيساً في بناء اقتصاد الكيان في الخمسينيات والستينيات، بل وايضاً لأنه المدماك الذي تاسست عليه محددات اخرى هامة في الرواية. كمفهومي الأمن والضحية.
إن الوظيفة الاستخدامية الأبرز للهولوكوست هي في استخدام كون اليهودي ضحية للنازية لتبرير دوره كجلاد للشعب الفلسطيني، فالهولوكوست هو المدخل لتبرير حاجة اليهودي بعد المذابح النازية (لوطن)، وتلك الحاجة تتطلب رفع مستوى مفهوم الأمن لدى الرأي العام الغربي، لمستوى العجل المقدس الذي لا يجوز مسّه، وهو ما قاد ويقود لحد الآن التعبير عنه بالصيغة الغريبة التي يجري حالياً نقدها بجرأة، نعني صيغة (حق إسرائيل في الدفاع عن النفس)، وهو النقد الذي سجله مندوب روسيا في مجلس الأمن، وسبقته الملكة رانيا العبد الله في تغريدتها الجريئة.
كيف يمكن اعتبار أن من حق دولة استعمارية المدافعة عن نفسها أمام مقاومة مشروعة بكل مقاييس الشرعة الإنسانية والقانونية؟ فقط إذا تم تقديم هذه الدولة الاستعمارية ليس باعتبارها هكذا، بل باعتبارها ضحية بفعل المجزرة النازية. من هنا ولذلك يحضر الهولوكوست مباشرة في أول تصريح لنتياهو يعلنه على الملأ حين قال أن ما جرى في 7 أوكتوبر لم يحصل منذ الهولوكوست. لقد نجح الصهاينة وعبر عشرات السنين في استخدام الهولوكوست في روايتهم وعبر الإعلام الغربي الذي تبناها 100% فتحول اليهودي المستوطن، والذي غدا صهيونياً، وجلاداً ضد الشعب الفلسطيني، ومرتكب لجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية، إلى ضحية تبكي مطالبة بالأمن وحقها في الدفاع عن نفسها.
لكن هذه المرة لم ينفع الصهاينة هذا. فتصريح نتياهو لم يجد سوقاً له، على الأقل بعد اليوم الخامس للمعركة، عندما بدا العالم يكتشف ان هذا الربط بين نضال الشعب الفلسطيني والهولوكوست محض دعاية كاذبة مدعومة بصور مفبركة من أجل استقطاب الرأي العام، خاصة بعد المعطيات التي تكشفت والتي سجلناها عند مقدمة هذه المقالة. لقد ظهر الجلاد كجلاد ولم يعد ينفعه تمثيل دور الضحية المتباكية، وبالعكس أصبح سلوكه يتصف بصفات عديدة أطلقها الراي العام تليق به: تطهير عرقي، إبادة جماعية، جريمة حرب وضد الإنسانية.
اختراع (الصورة) وصياغة الأكاذيب
وتلك محددات جديدة/قديمة لروايتهم، فقد حفل تاريخ روايتهم ومنذ ما قبل العام 48 بمفاصل هامة تتعلق بالصورة المقدمة لفلسطين، لعل اشهرها صورة فلسطين الجدباء الصحراوية التي أتى الأبيض الصهيوني وعمّرها فحولها لجنة ديموقراطية، وقد كررت ذلك المتصهينة أورسولا رئيسة المفوضية الأوروبية، فيما الصورة الثانية وهي أن (فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض). تم اختراع الصور هذه ذهنياً رغم معرفة القاصي والداني بزيفها، وجرى ترويجها، فالتقطها كالعادة الإعلام الغربي المتصهين يكررها كالببغاء. أختراع (الصورة) ليس بجديد عليهم.
الذي تمعن فيما قاله نتياهو في اتصاله الهاتفي الأول مع بايدن ليضعه بصورة ما حدث في 7 أوكتوبر، وقد تم بث الاتصال، لا يمكن إلا أن يتملكه شعور بالعجب من قدرته، ودون أن يظهر عليه، على صياغة الأكاذيب وخلق (الصورة) من لا شيء. لقد أعلن أن هناك (أطفالا قُطعت رؤوسهم وحرقوا أحياء ونساء تم اغتصابها)، ودون ان يرف له جفن، أما ماذا قدّم يثبت ذلك فلا شيء، مجرد أكاذيب التقطها العجوز الخرف بايدن، ومن خلفه بلينكن وكل جوقة عبيد الصهيونية في الإعلام الغربي وباتوا يرددونها.
وكما يقال في المثل (راحت السكرة وأجت الفكرة). تبينت حقيقة تلك الأكاذيب و(الصور) الخيالية، ليس من الإعلام المتعاطف مع شعبنا، بل من سكان المستعمرات الذي قالوا في الإعلام الصهيوني عكس ذلك تماماً، بل أظهروا الوجه الإنساني للمقاتلين الأمر الذي حدى بالإعلام الصهيوني لشن حملة على مَنْ سمح لهم بالتحدث!!!! عجيب أمر إعلامهم. كنا دائما ما نطعن بنزاهة وصدقية الإعلام العربي الرسمي على العموم، وهو طعن مشروع وحقيقي، ولكننا اليوم نلحظ أن إعلامهم بأكاذيبه وصوره الخيالية بز إعلامنا بدرجات: إنهم محترفون للكذب واختراع (الصورة)، ولكن مشكلتهم ان حبل الكذب قصير وقصير جداً، وامام الصورة المتخيلة المخترعة هناك صور واقعية جداً جداً.
استخدام الأسطرة الدينية
يتتبع شلومو ساند المؤرخ الإسرائيلي في كتابيه (اختراع الشعب اليهودي وإختراع أرض إسرائيل) العملية الثقافية/ السياسية التي قام بها مثقفون صهاينة منذ منتصف القرن التاسع عشر لإحداث التلاقح بين النص التوراتي الأسطوري والنزعة القومية الأوروبية (لاختراع شعب يهودي وأرض إسرائيل)، في عملية كانت هي المدماك الأساس في بناء القاعدة الأيديولوجية للحركة الصهيونية الوليدة، ولاحقاً للمشروع الصهيوني.
بالاستناد للمقولتين الأسطوريتين (شعب الله المختار) و (أرض الميعاد) التوراتيتين تم بناء كل معمار الرواية الصهيونية بعد دمجها بالنزعة القومية الأوروبية منتصف القرن التاسع عشر وما بعد، لتغدو رواية الرجل الأبيض الصهيوني الذي يتوجه نحو لعب دوره الاستعماري (الحضاري) في الشرق. لقد غدت هاتين المقولتين رأس الحربة في استقطاب يهود العالم، بل وقطاعات واسعة من المسيحيين البروتوستانت، الذين باتوا يعرفون بالمسيحيين الصهاينة، الأمر الذي وفّر للصهاينة دعماً هائلاً في الولايات المتحدة والعديد من دول أوروبا على المستوى الشعبي.
أما اليوم فقد تم اختراق تلك الرواية في الشارع المتضامن من عشرات بل ومئات الآلاف من الأمريكيين والأوروبيين، وقطعاً منهم مسيحيين، بل ولافت ما صرّح به الرئيس الكولومبي الذي طرد السفير الإسرائيلي من بلاده (لم يفعلها اي نظام عربي)، حين رفض دينياً، كمسيحي كاثوليكي، ما يقوم به الكيان من إبادة جماعية باعتبار ذلك لا يرضى به الكتاب المقدس.
أما التطور اللافت فهو الاختراق من داخل يهود الولايات المتحدة ذاتها، والتي تتمتع فيه الرواية الصهيونية واساطيرها المؤسسة على حد تعبير غارودي حتى وقت قريب، بهيمنة في أوساط اليهود هناك. أوساط يهودية عديدة، وتتزايد يومياً، وتنشط في الشارع منذ اليوم الخامس للمعركة، وهي تحديداً أوساط شبابية ناشطة في الجامعات، باتت خارج رواية (شعب الله المختار) (شعب) تم اختراعه، يذبح، بقرار إلهي، شعباً محتلاً، باتت خارج مقولة (أرض الميعاد) التي تبرر التطهير العرقي والإبادة الجماعية لاستعمار الأرض في نسخة شرقية للاستعمار الأبيض للأمريكيتين.
وبعد، تلك بعض محددات الرواية الصهيونية كما نراها، إذ ينفضح زيفها وكذبها أمام رواية شعبنا التي تتضح مصداقيتها، وتحوز أكثر فأكثر على قاعدة شعبية في العالم تتسع يومياً.