خلافا لما كان مفترضا من الناحية المنطقية، فإن ثورة المواصلات والاتصالات زادت من غربة الناس، فقطّعت أوصالهم مرتين: مرة مع من تركوهم في وطنهم الأصلي، ومرة مع أسرهم التي بالكاد تعيش تحت سقف واحد في المهجر.
وكوني من الذين عشت التجربتين على طرفيها وأكثر من مرة وفي ظروف مختلفة، أقولها صراحة إنه لا خير أبدا، لا في الاغتراب ولا في الهجرة، حيث تطغى الأضرار على المكاسب قطعا ولو بعد حين، ولكن..
لكن، من قال إن لكل طريق مسرب إياب وذهاب؟ من قال إنه متعدد المسارات؟ من قال إنه معبّد؟ وفي كل الأحوال، لست وحدك وليس بيدك ضبط حركة المرور؟ عوامل الطرد والجذب هي خليط من إرادات فردية وجمعية وفوق هذه وتلك، ربّانية. سبحانه مجري السحاب لا تعلم أين تقضي سحابة يومك وكيف؟
وما من أحد «فوق رأسه خيمة» كما يقال. بمعنى ما من إنسان أو بلد محصن من تبعات تلك القضيتين المعضلتين: الاغتراب والهجرة. شهدنا في بضع سنين عبر زهاء قرن، ما يشيب له الولدان. وبلغ الأمر من الأهمية التي صار فيها مسألة أمن قومي والموقف منها يحدد من ينجح في الانتخابات حتى في أكثر الدول عراقة وثراء وديموقراطية.
أمريكا رمز العالم الجديد والتي ما زالت قطب العالم الأوحد، بنت قصة نجاحها على مثال «ميلتينغ بوت» أي «بوتقة الانصهار»، بمعنى أن يعطي الكل، الكل، ويأخذ الجميع من الجميع. في العقدين الماضيين، تعالت الأصوات في بلاد العم سام وكذلك في أوروبا من الاختلال السكاني بمكوناته كافة: العمرية والعرقية والاجتماعية-الاقتصادية لدرجة لا يمكن السكوت عنها، الأمر الذي أدى إلى تنامي الحس الوطني والاتجاه اليميني المحافظ الذي لا ينجو من مخاطر الانزلاق إلى مهاوي التطرف لا بل والعنصرية.
بدأت رزايا عدم استباق النتائج الحتمية لاختلال معادلات الموارد والسكان واختلال تراكيب السكان أنفسهم، بدأت بالضغط على الجميع. والحكيم من يعمل على تنفيس القدر «البوتقة» قبل انفجارها لا قدر الله، أو على الأقل وفي أحسن الأحوال، قبل أن يغيّر الاختلال في صحة قوام ما فيه، فتصير المادة المنصهرة بلا قوام ولا طعم ولا رائحة.
قرأت منذ أشهر كتابا لباحثة متخصصة بالدراسات السكانية من الناحية الأمنية وهي خبيرة ومحللة استراتيجية تعمل كمتعاقدة أكاديمية مع وزارة الدفاع الأمريكية، البنتاغون. خلاصة الكتاب -وسآتي على ذكره في مقالة أخرى بعون الله- خلاصته إن من واجب من ننتخبهم أو نختارهم لمواقع الخدمة العامة، مراعاة مصالح الناخبين -بمعنى المواطنين- أولا وأخيرا. ولا ضير ولا حرج من القول همسا وجهرا «عودوا» للجميع. عودوا «خالي»،عودوا فالعود دائما أحمد، وعن الرزايا أبعد..