منذ انتهاء الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي والعمالة الكورية تعمل بهمة ونشاط لا مثيل لهما. لقد وصل بهم الأمر كاليابانيين الذين يموتون بالكاروشي نتيجة الأدمان في العمل إلى الموت مثلهم في إدمان العمل فيما يسمى بالجوروزا.
يقول أحد طلبة الجامعة لقد ظل والدي يعمل طيلة حياته بكثافة لدرجة أنه لم يعد عنده فرق بين العمل والحياة.
الحكومة الكورية واقعة بين ضغطين قويين: ضغط الأعمال والاقتصاد ومواصلة التقدم والتطور والإزدهار بزيادة ساعات العمل، وضغط النقابات وجيل الشباب لخفض ساعات العمل. الشباب يرون في زيادة ساعات العمل عبئاً نفسياً وجسمياً ثقيلاً عليهم، يمنعهم من الاستمتاع بحياتهم.
اما الرئيس الكوري فيقول: إنه منصت إلى ما يطالب به الرأي العام، وانه مهتم بحقوق الشباب والعمال غير المنتسبين إلى النقابات وإنه إلى ان يتم وضع خطة لمعالجة ذلك، فإن المشكلة في كوريا ناجمة عن نقص الأيدي العاملة اللازمة للاقتصاد الناهض، وارتفاع نسبة المسنين في المجتمع، وعزوف الشباب عن الزواج والإنجاب. لقد تم تخفيض ساعات العمل الأسبوعية سنة 2012 إلى 52 ساعة، مع السماح بـ 12 ساعة اسبوعية كعمل إضافي. وقد تبين بعد بضعة سنوات أن هذا الإجراء غير كاف، وأن العمال يقضون ساعات أكثر بالفعل مما حدده القانون لإنجاز الأعمال.
لطالما رحب المجتمع الكوري في فترة الذهاب بزيادة ساعات العمل، وبانتشار التعليم وارتفاع مستواه وبدخول المرأة بقوة في سوق العمل باعتبار ذلك ضرورياً للخروج من الفقر المدقع في كوريا الذي تلا الحرب الكورية في خميسنات القرن الماضي، حين كانت كوريا أحد أفقر البلدان في العالم ولكن النقاد يرون اليوم أن الزيادة الكبيرة في ساعات العمل الأسبوعية، وفي الإدمان عليه أحد أسباب الموت به الذي يحصل نتيجة الاجهاد النفسي والجسمي الزائد، وإصابات العمل وقيادة السيارة والسائق/ العامل شبه نائم.
إن العاملين والعمال يعانون من العزلة، والتواصل الاجتماعي نتيجة انغماسهم الطويل في العمل، فلا يبقى لديهم وقت أو مزاج لذلك، وهو أشد وقعاً على النساء منه على الرجال في كوريا. ويتجلى ذلك في ارتفاع نسبة الانتحار التي هي الأعلى في كوريا بين البلدان المتقدمة.
لعل سواقي التكسي في الأردن الذين يعملون بالضمان ويتعبون أكثر من الذين يعملون في كوريا الجنوبية واليابان، فهم يخرجون إلى العمل مبكراً ولا يرون أطفالهم وزوجاتهم، ويعودون إلى البيت وهم نائمون ان عملهم في الأسبوع قد يصل إلى ثمانين ساعة أو أكثر ليتمكنوا من دفع مبلغ الضمان الذي يبلغ خمسة وعشرين ديناراً أو أكثر صيفاً، وليفروا بضعة دنانير لهم ولذويهم. لا يوجد لهم حامٍ ولا نصير مع أنهم أثبتوا لسنوات طويلة خلت أنهم – إجمالاً – محترمون فنحنن لم نسمع عنهم قصة شائنة أو جريمة مروعة.
في المجتمع العربي – وربما المسلم- وباستثناء هؤلاء السواقين تسير الحياة بالعكس، ففي الأردن تم تقليص أيام العمل الأسبوعي إلى خمسة أيام، ولما يبلغ الاقتصاد المدى اللازم للاكتفاء أو الاستقلال وتشغيل كل طالبي العمل، فما الفائدة -تقول النكتة- من بقاء الأسبوع أطول؟.
والحقيقة – كما يبدو أن عقليتنا وأمزجتنا ذات العلاقة بالعمل لا تزال متأثرة بطبيعة العمل الموسمي في اقتصاد البادية أو اقتصاد الكفاف، فنميل إلى الدعة والكسل والتقلب على جنوبنا، ثم نطالب الدولة بتوفير كل ما يلزم لنا مما يتمتع به الناس في الدول المتقدمة ونحن قاعدون.
وربما استمر هذا السلوك بعد زوال اقتصاد البادية واقتصاد الكفاف بتعويد الدولة الناس عليه بتصرفها كدولة أبوية أو ريعية. وقد تم توفير لها ذلك بعائدات موارد طبيعية كالنفط، أو بالقروض والديون الفاحشة.
وقد يكون لذلك سبب جيني، فطري، بيولوجي عندنا يختلف عما هو عند غيرنا من الشعوب النشيطة الشغالة كالأوربيين والأمريكيين واليابانيين والكوريين والصينين... حيث العمل والحياة وجهان لحقيقة واحدة.
هؤلاء لا يجدون وقتاً للراحة، ونحن لا نجد وقتاً للعمل، وهم مدمنون على العمل ونحن مدمنون على الكسل، وهم مدمنون على الإنتاج، ونحن مدمنون على الاستهلاك، وهم يموتون من ضغط العمل، ونحن نموت من ضغط الكسل.
وبالمقارنة المختصرة المقلوبة هم يعيشون في جحيم العمل، ونحن نعيش في نعيم الكسل. لكن هل نملك كفالة أو ضمانة لذلك؟ فما أغباهم وما أذكانا!!!