إعادة تعريف آفَة الجريمة والعنف لدى المجتمع العربيّ

إعادة تعريف آفَة الجريمة والعنف لدى المجتمع العربيّ
أخبار البلد -   أخبار البلد - اتّساع الجريمة المنظَّمة والعنف في المجتمع العربيّ لم يأتِ من فراغ. فهو نتاجُ مُجْمَل السياسات الحكوميّة والإقصاء المعمول بها تجاه المجتمع العربيّ، لا مجرّد إهمال وتواطؤ الشرطة فقط. فقدان الأمن والأمان، وتراجع الثقة في الناس وفي السياسة، والعزوف عن السياسة.

بلغ عدد القتلى في جرائم القتل في المجتمع العربيّ منذ بداية العام الحاليّ نحو 80 قتيلة وقتيلًا، وهو ما يعادل ضِعفَيْ عدد القتلى في الفترة نفسها من العام الماضي. حيال تصاعد وتيرة القتل اليوميّة، وعشرات الإصابات وعمليّات إطلاق النار، أقرّت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربيّة في البلاد، منتصفَ أيّار (2023)، خطّةَ احتجاج تصاعديّة لمواجهة العنف والجريمة في البلدات العربيّة اللذَيْن يستفحلان في ظلّ تقاعُس وتواطؤ الشرطة الإسرائيليّة. بدأت الخطوات الاحتجاجيّة يوم الأحد، 21/5/2023، بتنظيم قافلة سيّارات لتشلّ حركة السير في الشارع "6" وصولًا إلى القدس، تلاها نَصْبُ خيمة اعتصام أمام مكاتب الحكومة في القدس.[1]

هذه ليست المرّةَ الأولى التي تُقِرّ وتدعو فيها لجنة المتابعة إلى اعتماد خطوات وفعّاليّات احتجاجيّة ضدّ العنف والجريمة، من ضمنها إغلاق "الشارع 6"، ونَصْب خيمة اعتصام في القدس. فقد شهدنا ذلك في العام 2019، إلى جانب خروج مظاهرة ضخمة على "الشارع 85" (عكّا – صفد) عام 2019 بعد مقتل ثلاثة شبّان في قرية مجد الكروم، شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين العرب.[2]

لم تنجح في تغيير حجم الجريمة الاحتجاجات والتظاهرات كافّة، وخيامُ الاعتصام واللقاءات مع قيادات الشرطة، واللجانُ البرلمانيّة الخاصّة لمواجهة الجريمة والعنف في المجتمع العربيّ، ولا مشارَكة حزب عربيّ في الائتلاف الحكوميّ بعد التنازل عن الـمَطالب القوميّة والاكتفاء بالمدنيّة، بل نرى أنّ جرائم القتل في ازدياد، وأنّ أعداد القتلى في تصاعد. على المحكّ، نرى أنّ الحكومات المتتالية وجهاز الشرطة والمجتمع العربيّ كلّهم فشلوا في تقليص آفَة الجريمة والعنف.

ترى ورقة الموقف هذه أنّ الأدوات الاحتجاجيّة المستعمَلة محدودة جدًّا، وهي تكرار لذات الشيء، لا جديد فيها ولا تجديد. على الجملة، لا تؤثّر الاحتجاجات والعمل البرلمانيّ تأثيرًا جِدّيًّا على اتّخاذ قرار لدى الحكومات -وإنْ كان ثمّة تفاوت بين الحكومة السابقة والحكومة الحاليّة-، وعلى الشرطة للتعامل الجِدّيّ والحقيقيّ مع الجريمة والعنف في المجتمع العربيّ، بل إنّ الشرطة تقول على نحوٍ غير مباشر إنّها فشلت، أو إنّها لا تملك الأدوات لمعالجة هذا الملفّ الدامي. من هنا ترى أنّه ثمّة حاجة إلى الابتعاد عن المقارَبات التقليديّة لتعريف آفَة الجريمة والعنف في المجتمع العربيّ وتحليلها، وعدم الاكتفاء بمطالَبة الشرطة للتعامل مع الجريمة، بل ينبغي تحويل المطلب إلى مطلب سياسيّ يرتبط بمكانة المجتمع العربيّ عامّة، وبتغيير تعامل الدولة مع المواطنين العرب على نحوٍ جذريّ، لكون الجريمة المنظَّمة نتاجًا وتراكمًا لكلّ السياسات الحكوميّة المعمول بها تجاه المجتمع العربيّ. الجريمة والعنف يسهمان في ابتعاد المجتمع العربيّ عن السياسة، في حين أنّه ينبغي لهما أن يَكونا مَدخلًا لإعادة السياسة إلى المجتمع العربيّ.

عدم جِدّيّة الخطط والسياسات الحكوميّة لمكافحة الجريمة

في مؤتمر هِرتْسْلِيا الأخير (أيّار 2023)،[3] أوضحت سيـﭽـال بار تْسْـﭭـي، رئيسة وحدة العمليّات في الشرطة، أنّ الشرطة في أزمة ولا تملك أدوات ولا خططًا جِدّيّة لمواجهة الجريمة في المجتمع العربيّ؛ إذ قالت: "نحن في ورطة. علينا الإعلان عن حالة طوارئ وطنيّة بسبب عدد جرائم القتل في المجتمع العربيّ. لم نعد قوّة شرطة قويّة. فقدان الثقة في الحكم يؤدّي إلى البحث عن بدائل".[4] وَفْقًا لبار تْسْـﭭـي، السبب الرئيسيّ لهذا هو النقص في عدد عناصر الشرطة.

جاءت أقوال سيـﭽـال على أثر الارتفاع الحادّ في عدد القتلى العرب في جرائم القتل، وعدم تمكُّن الشرطة من مواجهة الجريمة؛ إذ ليس ثمّة كشف عن الجناة ولا تقديم لهم للمحاكمة إلّا في حالات فرديّة. ففي عام 2021، قَدّمت الشرطة لوائح اتّهام في 10 قضايا قتْل من أصل 81 جريمة قتل، أي بنسبة 30%؛ وعام 2022 قَدَّمت لوائح اتّهام في 25 جريمة من أصل 111 جريمة قتل، أي بنسبة 23%؛ ومنذ بداية العام الحاليّ قَدَّمت لوائح اتّهام في 10 جرائم من 81 جريمة قتل، أي بنسبة 12%، وَفقًا لتقرير نُشِر في موقع واينت.[5]

طرحت الحكومات الإسرائيليّة في السنوات الأخيرة خططًا لمكافحة العنف والجريمة في المجتمع العربيّ، بجِدّيّة متفاوتة. عرضت حكومة نتنياهو، في شهر تمّوز عام 2020، خطّة حكوميّة موسّعة للتعامل مع آفَة الجريمة والعنف في المجتمع العربيّ، تمحورت بالأساس في تعزيز قوّات الشرطة وإمكانيّاتها، وتطرّقت بمحدوديّة شديدة إلى المسبِّبات الاقتصاديّة والتعليميّة لتوسُّع الجريمة، وإلى الحاجة الملحّة للتعامل أيضًا مع هذه الجوانب. تكشف مقدّمة الخطّة منطلَقاتها، وكيف ترى وتتعامل الحكومات الإسرائيليّة مع هذه الآفَة، فكما توضّح المقدّمة، إنّ أسبابًا اجتماعيّة وثقافيّة في المجتمع العربيّ هي المسبِّبات الرئيسيّة في توسُّع الجريمة، وتحمِّل المجتمع العربيّ -وإنْ بصورة غير مباشرة- مسؤوليّةَ الجريمة والعنف.

كان تنفيذ خطّة حكومة نتنياهو جزئيًّا، وهو الجزء المتعلّق بميزانيّة الشرطة، إلى جانب تعزيز بعض الجوانب الاقتصاديّة (على سبيل المثال: برامج وخطط لرفع مشاركة العرب في أسواق العمل -ولا سيّما النساء العربيّات). على وجه العموم، أخفقت الخطّة في تحقيق تغيير جوهريّ بتعامل الشرطة مع الجريمة والعنف في المجتمع العربيّ.

بعد ذلك، أعلنت حكومة بينيت - لابيد خطّة حكوميّة لمواجهة الجريمة في المجتمع العربيّ، تتمحور أيضًا في دَوْر الشرطة والجوانب الأمنيّة والقضائيّة، وأقرّت إنشاء وحدة شرطة خاصّة لمكافحة العنف في المجتمع العربيّ أطلقت عليها وحدة "سيف".[6] وزير الأمن الداخليّ آنذاك، عومر بار ليﭫ، صرّح خلال إشهار الخطّة أنّها تشمل أربعة محاور: الأوّل، الذراع القويّة والذراع الناعمة؛ الثاني، التشريعات الداعمة التي ستسمح بتقديم المجرمين بسرعة وكفاءة إلى المحكمة؛ الثالث، تفكيك عائلات الإجرام ووضع حدّ لظاهرة الخاوة؛ الرابع، العمل جنبًا إلى جنب مع لجنة مؤلَّفة من القيادات المحلّيّة إلى جانب مؤثّرين في الرأي العامّ من المجتمع العربيّ".[7]

الركائز الأساسيّة للخطّة -كما جاء في بيان مكتب رئيس الوزراء- تتعلّق غالبيّتها بتحسين وتعزيز أداء الشرطة،[8] نحو: تعزيز تواجد الشرطة في البلدات والشوارع؛ تقوية القدرات الاستخباراتيّة والتحقيق؛ تطبيق القوانين في المجال الاقتصاديّ والماليّ على عصابات الإجرام؛ وسَنّ قوانين داعمة لهذا المجهود؛ ملاحَقة عائلات الإجرام وجباية الخاوة؛ إضافة 1,100 شرطيّ إلى قوّات الشرطة؛ إقامة محطّات شرطة؛ توسيع مشروع الشرطة الجماهيريّة؛ توسيع مشروع "المدينة الآمنة" لبلدات إضافيّة -مع التشديد على البلدات المختلطة.

عمر حكومة بينيت-لابيد القصير، وما حصل من تغيُّرات بعد تشكيل حكومة نتنياهو الحاليّة، يصعّبان علينا تقييم تنفيذ الخطّة وفاعليّتها، غير أنّها في واقع الأمر، على الرغم من قِصَر الفترة، لم تؤدِّ إلى تغيير جوهريّ في مكافحة الجريمة والعنف في المجتمع العربيّ.

بعد الانتخابات الأخيرة -التي أُجْرِيَتْ في تشرين الأوَّل عام 2022- وتشكيل حكومة نتنياهو، تولّى إيتمار بن ﭼﭭـير منصب وزير الأمن القوميّ،[9] وبات مسؤولًا عن سياسات مكافحة الجريمة والعنف في المجتمع العربيّ. كان واضحًا أنّ اهتمام بن ﭼﭭـير بوزارة الأمن القوميّ سيصبّ في ترجمة عقيدته العنصريّة العدائيّة تجاه المجتمع العربيّ إلى سياسات، وأنّ هذا أكثر من اهتمامه بمكافحة الجريمة المنظَّمة والعنف في المجتمع العربيّ.

سياسات الشرطة حاليًّا، وقرارات بن ﭼﭭـير، تعزّز هذه المخاوف على أرض الواقع. فقد نشرت صحيفة "هآرتس"، في بداية آذار، أنّ الشرطة تنوي تفكيك وحدة "سيف" الخاصّة بمكافحة الإجرام في المجتمع العربيّ، التي أُعلِنَ عن تأسيسها قبل عام ونصف العام، وتحويلها إلى "لواء عربيّ" يتبع لـ"قسم المجتمعات" في الشرطة.[10] استنادًا إلى مصادر في الشرطة، وَفْقًا لصحيفة "هآرتس"، منذ أن تولّى إيتمار بن ﭼﭭـير منصب وزير الأمن القوميّ حدث تراجع كبير في النشاط ضمن عمليّة "المسار الآمن" لمكافحة الجريمة في المجتمع العربيّ، وفي إدارة وحدة "سيف"، وتوقَّفَ التواصل مع رؤساء السلطات المحلّيّة العربيّة.[11] وقال مسؤول في جهاز تطبيق القانون إنّ أحد أسباب الزيادة الحادّة في عدد جرائم القتل هو أنّ حملة الشرطة لمكافحة الجريمة في المجتمع العربيّ (الحملة التي بادر إليها عام 2021 نائب الوزير السابق، يوآﭪ سيغالوفيتش) قد تباطأت تباطؤًا شديدًا.[12]

عِوضًا عن وضع الخطط والسياسات لمكافحة الجريمة والعنف في المجتمع العربيّ، أسّس بن غفير وحدة "الحرس القوميّ" التي ترمي -في ما ترمي- إلى إنشاء جهاز أمنيّ خاصّ للتعامل مع المجتمع العربيّ، ولا سيّما سكّان المدن الساحليّة المختلطة والسكّان العرب البدو في النقب، كي تكون أداةً إضافيّة للملاحقة السياسيّة.

إهمال الشرطة الإسرائيليّة للجريمة والقتل في البلدات العربيّة، ونوايا الشرطة الحقيقيّة تجاه الجريمة في المجتمع العربيّ، تتكشّف كذلك من تصريحات تفوَّهَ بها يعقوب شبتاي، المفتّش العام للشرطة، خلال جلسة مداولات حول الجريمة المستشرية في المجتمع العربيّ مع وزير الأمن القوميّ، سُرِّبت في بداية شهر نيسان (2023)، وكان قد قال فيها: "هذه هي طبيعتهم. يقتلون بعضهم البعض. ليس ثمّة ما يمكن فعله" -وهو ما يوضّح عنصريّةَ الشرطة بل تواطُؤَها كذلك مع الجريمة والقتل والنيّة المبيَّتة لتركها تتفشّى في المجتمع العربيّ.[13]

مراجَعة الخطط الحكوميّة تُوضِّح طبيعة المقارَبة القائمة في أساس تعامل الحكومة مع الجريمة المنظَّمة والعنف في المجتمع العربيّ، وبالإمكان تلخيصها بما يلي:

نرى أنّ ارتفاع اهتمام الحكومة والمؤسَّسة الإسرائيليّة في قضيّة العنف والجريمة في المجتمع العربيّ يأتي بعد أن باتت الجريمة المنظَّمة تشكّل تهديدًا على المجتمع اليهوديّ أيضًا، وعلى هيبة المؤسَّسة، وبخاصّة ما لوحِظَ من تراجع مكانة وردع جهاز الشرطة في المجتمع العربيّ. تجلّت هذه المخاوف في ردود فعل المؤسَّسة الأمنيّة عامّة، ولا سيّما الشرطة، بعد هبّة الكرامة في أيّار عام 2021؛ إذ قَرَنَ العديد من قيادات الشرطة والمخابرات والوزراء والإعلام بين بعضٍ من "عجْز الشرطة" في التعامل مع الهبّة وإطلاق نار من قبل مواطنين عرب (وفْقًا لادّعاء الشرطة)، وتفشّي السلاح غير القانونيّ وتعاظُمِ قوّة عصابات الإجرام.

ثمّة تزايد في مخاوف الدولة من التأثير الاقتصاديّ السلبيّ للعنف والجريمة في المجتمع العربيّ، وسيطرة الإجرام المنظَّم على جزء من السلطات المحلّيّة والفعّاليّات الاقتصاديّة، وترى في ذلك تهديدًا وعائقًا أمام تنفيذ الخطط الحكوميّة للتطوير الاقتصاديّ في المجتمع العربيّ، وبالتالي على تطوير الاقتصاد الإسرائيليّ.

نجد أنّ الخطط المقترَحة هي استمرار للعقليّة السائدة في المؤسَّسة الإسرائيليّة منذ سنوات، التي تتعامل مع المجتمع العربيّ وقضاياه بالأساس من منظور وأدوات أمنيّة، على الرغم من أنّ هذه الأدوات استُعمِلت في السابق دون أن تحقّق نتائج إيجابيّة، أو أن تخفّف من حالة العنف في المجتمع العربيّ.

يمكن القول إنّه لا وجود لقرار سياسيّ للتعامل الجِدّيّ مع الجريمة المنظَّمة في المجتمع العربيّ.

يغلب العداءُ تجاه المجتمع العربيّ، والمراقَبةُ، واستخدامُ الأدوات القمعيّة، على الثقافة السائدة لدى الشرطة، قياداتٍ وأفرادًا، تجاه المجتمع العربيّ. وقد تطرّقت العديد من التقارير والأبحاث إلى هذه الذهنيّة وأسلوب التعامل، ابتداءً من تقرير لجنة أور، وتقارير لجنة المتابعة بشأن قضيّة العنف،[14] والتقرير الخاصّ الذي أصدرته النائبة السابقة حنين زعبي حول تعامل الشرطة مع المجتمع العربيّ،[15] وأبحاث عديدة أخرى.[16]

مقارَبة مغايِرة لتعريف الجريمة والعنف في المجتمع العربيّ

وفقًا للباحثة إيلات مَعوز،[17] الجريمة المنظَّمة هي استمرار لأدوات القمع والاضطهاد ومحاولات السيطرة، السياسيّة والاقتصاديّة، على المجتمع العربيّ، بأدوات أخرى، وكذلك نتاج التحوُّلات النيوليبراليّة الحاصلة في الاقتصاد الإسرائيليّ. علاوة على ذلك، يسهم تفشّي الجريمة والعنف في محاولات تغييب الـمَطالب السياسيّة، والاكتفاء بالقضايا الحارقة التي تواجه المجتمع. وقد أثّر ذلك، وَفقًا لِمَعوز، في تراجع نِسب التصويت لدى المجتمع العربيّ في الجولات الانتخابيّة الأخيرة، كنتيجة أزمة ثقة حادّة، لا في الدولة ومؤسَّساتها فحسْب، بل كذلك في القيادة السياسيّة العربيّة. وبحسب تقديرنا، منظَّمات الإجرام ستتورّط في الانتخابات للسلطات المحلّيّة القريبة (تشرين الأوّل 2023)، ولن يقتصر تأثيرها على التسبُّب للمجتمع في العزوف عن المشاركة السياسيّة.

تضيف مَعُوز أنّه ثمّة شعور باليأس والعجز في مواجهة التنظيمات الإجراميّة والزيادة المخيفة في معدَّلات العنف والقتل، لدى المجتمع العربيّ. حالة الخوف والرعب تقضي على الحياة اليوميّة، وتدفع إلى الشعور باليأس، وتشهد على حالة تفكُّك اجتماعيّ عميق وتُوَلِّدُهُ كذلك. إنّها تدفع بالناس صوب الانغلاق والانكفاء على أنفسهم، حتّى لا يُدخِلوا أنفسهم في المتاعب، وتخلق حالة من الغضب تجاه قيادة ضعيفة لا تقدّم أيّ حلول للأزمة (ربّما لأنّها لا تملك ذلك). بهذا المعنى هي سبب لابتعاد الناس عن الشأن العامّ والقضايا العامّة وعن السياسة. وفعلًا باتت قضيّة الجريمة والأمن الشخصيّ تتصدّر مَطالب المجتمع العربيّ، على نحوِ ما تُبيِّن استطلاعات الرأي العامّ كافّة في السنوات الأخيرة،[18] لكن دون ربطها بالقضيّة السياسيّة.

تضيف مَعُوز أنّ إحدى مقارَبات فهم حالة الإجرام الواسعة الانتشار، وبخاصّة بين ظهرانَيِ الجمهور العربيّ الفلسطينيّ، تزعم بشدّة أنّ مَصْدر الجريمة هو الاضطهاد القوميّ: دولة إسرائيل -التي منذ اليوم الأوّل لتأسيسها قامت بتهميش وإضعاف واستغلال واضطهاد الفلسطينيّين داخل حدودها- خلقت تربة خصبة للجريمة خدمةً لأغراضها. وتَخْلص مَعُوز إلى أنّ التناقضَ بين العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والإقصاءَ السياسيّ الذي يزداد حدّةً وتطرُّفًا، ليسا نتاجًا تاريخيًّا ظرفيًّا. إنّه مشروع سياسيّ مُهَيْمِن نما في إسرائيل منذ عام 2000، وتَعَزَّزَ بعد نشر وثائق التصوُّر المستقبليّ في فترة العامَيْن 2006-2007، وذلك بتوجيه من كبار مسؤولي الشاباك والاقتصاد الإسرائيليّ، وهو أمر عابر للمعسكرات السياسيّة في إسرائيل.

إلى جانب تواطؤ المؤسَّسة وإهمال الحكومة، يعكس انتشار الجريمة المنظَّمة والعنف في المجتمع العربيّ مكانةَ المجتمعِ العربيِّ المدنيّةَ المتدنّيةَ، وتراكُمَ سياسات الدولة تجاه أبناء هذا المجتمع في مَناحي الحياة كافّة. فهو (هذا الانتشار) يعكس التشوُّهاتِ الاقتصاديّةَ التي حلّت بالمجتمع العربيّ في ظلّ السياسات النيوليبراليّة التي باتت تسيطر على المجتمع العربيّ، وتراجُعَ دَوْر الدولة الاقتصاديّ وتقليصَ دولة الرفاه، بحيث بقيت الشرائح المستضعَفة دون أيّ حماية اقتصاديّة واجتماعيّة، ويعكس كذلك تزايُدَ ثقافة الاستهلاك التي تسيطر على المجتمع العربيّ، وتوسُّعَ الفجوات الطبقيّة داخله؛ إذ يشير مؤشّر عدم المساواة ("جيني") في البلدات العربيّة إلى ارتفاع جِدّيّ في العَقْد الأخير. صحيح أنّ المجتمع العربيّ شهد ارتفاعًا في مستويات المعيشة في العَقد الأخير، لكن هذا الارتفاع كان غير متساوٍ بين شرائح المجتمع العربيّ، وزاد من الفجوات الاقتصاديّة وعدم المساواة.

في موازاة هذا، ثمّة منافسة شديدة على الموارد، الشحيحة أصلًا، ولا سيّما الأراضي؛ إذ يحاول الإجرام المنظَّم السيطرةَ على مناقصات الأراضي في البلدات العربيّة بسبب الارتفاعِ الحادّ في أسعار الأراضي، وتقليصِ المساحات المتاحة للبناء، والنقصِ المستقبليّ المتوقَّع. وأحيانًا تكون السيطرة بأدوات إجراميّة. كذلك ثمّة منافَسة على الميزانيّات الحكوميّة التي تُحوَّل إلى السلطات المحلّيّة العربيّة التي ما زالت ترتكز على العائليّة، ممّا يخلق منافَسة على الموارد وعلى أماكن العمل، ومعها ترتفع شهيّة الإجرام المنظَّم للسيطرة على السلطات المحلّيّة ومواردها.

كلّ هذا في ظلّ فشل جهاز التعليم في توفير فرص تعليم لائقة للطلبة العرب تسهم في اندماجهم في الأكاديميّة أو أسواق العمل المتغيّرة والحديثة. هذا ما نراه من تراجُع في نسبة مشارَكة الشباب العرب في أسواق العمل، ناهيك عن تطوير اقتصاديّ محدود في البلدات العربيّة لا يوفّر أماكن عمل حديثة ذات دخل مرتفع؛ فغالبيّة الفروع الاقتصاديّة في البلدات العربيّة هي فروع اقتصاديّة تقليديّة، وفي مجال الخدمات والتسويق والاستهلاك.

تتطلّب مواجَهة الجريمة والعنف إعادةَ تعريف قضيّة الجريمة والعنف، وعدمَ الاكتفاء بالمقارَبة الرسميّة باعتبارها قضيّة أمنيّة أو خللًا في أداء الشرطة. يجب أن تكون قضيّة الجريمة والعنف مدخلًا لإعادة التعريف السياسيّ، والـمَطالب السياسيّة لدى المجتمع العربيّ، بحيث توضّح أنّ التعامل مع الجريمة والعنف يحتاج إلى تغيير الذهنيّة وإلى إجراء مراجَعة نقديّة لكلّ السياسات المعمول بها تجاه المجتمع العربيّ. تحتاج مكافحة الجريمة إلى خطّة شاملة للمدى البعيد ترمي إلى تطوير شامل للمجتمع والبلدات العربيّة، وإلى تعامل حقيقيّ مع الضائقة الاقتصاديّة وعرض خطط لتنمية مستدامة للاقتصاد العربيّ، والتعامل مع أزمة الائتمان وشحّ قروض الإسكان وأداء البنوك عامّة في البلدات العربيّة، وإلى نهضة في جهاز التربية والتعليم وفي التعليم العالي، وإلى حلّ مشاكل الأرض والمسكن والتخطيط في البلدات العربيّة، والتعامل مع ضائقة قضايا السلطات المحلّيّة العربيّة، وتطوير الثقافة والرياضة -والأهمّ إيجاد حلول لمشكلة البطالة لدى الأجيال الشابّة.

طبعًا ليس في الإمكان مكافحة العنف والجريمة دون جهاز الشرطة، فهذا شرط ضروريّ وأوّليّ، لكنّه غير كافٍ. لذا، ينبغي -على المدى القريب- إحداثُ تغيير جوهريّ في تعامل الشرطة مع المجتمع العربيّ، وتغييرُ الثقافة العدائيّة المتفشّية لدى جهاز الشرطة، والتعاملُ مع العرب كمواطنين متساوين يحقّ لهم العيش بأمن وكرامة.

خاتمة

اتّساع الجريمة المنظَّمة والعنف في المجتمع العربيّ لم يأتِ من فراغ. فهو نتاجُ مُجْمَل السياسات الحكوميّة والإقصاء المعمول بها تجاه المجتمع العربيّ، لا مجرّد إهمال وتواطؤ الشرطة فقط. فقدان الأمن والأمان، وتراجع الثقة في الناس وفي السياسة، والعزوف عن السياسة بمعناه الواسع، كلّ هذا أدّى أن يتحوّل مطلب المجتمع إيجاد حلّ للجريمة والعنف إلى المطلب الأبرز لدى المجتمع العربيّ، وإلى تحميل قسط كبير من مسؤوليّة هذا الوضع للقيادات السياسيّة والأحزاب ولجنة المتابعة. على ما يبدو، المؤسَّسة الإسرائيليّة غير معنيّة بتغيير هذا الحال؛ فهي ترى أنّ المجتمع العربيّ يتفتّت من الداخل، وأنّه مجتمع ضعيف ويعاني من غياب الأمن والأمان، وتتراجع فيه المشارَكة السياسيّة ويطغى المطلب المدنيّ على القوميّ. فضلًا عن هذا، ثمّة شبكات إجرام تتعاون مع المخابرات الإسرائيليّة كما صرّح القائد العامّ للشرطة قبل عدّة أشهر. وبِذا تستغلّ المؤسَّسة الإسرائيليّة الجريمة والإجرام بوصفهما من أدوات السيطرة على المجتمع العربيّ.

في هذا الواقع، نجد أنّ أدوات الاحتجاج، الشعبيّة والبرلمانيّة وتحرُّكات لجنة المتابعة واللجنة القُطْريّة للسلطات المحلّيّة العربيّة، لم تؤدِّ إلى تغيير يُذْكَر في تعامل الحكومات والشرطة مع آفَة الجريمة والعنف. إعادة تعريف الجريمة والعنف على أنّها قضيّة سياسيّة مَصْدرُها السياسات الحكوميّة في المجالات كافّة قد تسهم في إبداع أدوات نضال وعمل سياسيّ مختلفة عن المستعمَل حتّى الآن، وقد تعيد الناسَ إلى السياسة والنضال على نحوٍ جماعيّ ضدّ آفَة الجريمة والعنف، وعرض حلول جوهريّة تتناول منابع الجريمة والعنف كافّة -كالتعليم والاقتصاد والتخطيط والبناء، على سبيل المثال- وعدم الاكتفاء بالتعريف الأمنيّ. صحيح أنّ مردود تغيير السياسات لن يكون على المدى القريب، لكنْ بطبيعة الحال حلُّ هذه المشاكل لا يتأتّى على نحوٍ فوريّ. استكمال ذلك يكون بتغيير تعامل الشرطة مع المجتمع العربيّ ومع قضيّة الجريمة المنظَّمة والعنف، والعمل على تفكيك شبكات الإجرام المنظَّم على نحوٍ فوريّ ودون شروط.


 
شريط الأخبار جيش الاحتلال يعدم فتاة في الخليل فوز 5 رؤساء مجالس محافظات عجلون ومعان والعقبة والكرك والبلقاء بالتزكية بدء انتخابات رؤساء مجالس المحافظات ونواب رؤساء المجالس في المملكة ارتفاع أسعار الذهب بالأردن نصف دينار 5 إصابات بتصادم مركبتين على طريق ال100 تعمق تأثير الكتلة الهوائية الجافة والحارة على المملكة بهذا الموعد ماسك يفقد أكثر من نصف ثروته ويخسر حوالي 175 مليار دولار في وقت قياسي وفيات الأردن اليوم الأربعاء 24/4/2024 سعر الذهب من شهر آذار إلى شهر نيسان إرتفع 400 دولار بيلوسي تنتقد ممارسات نتنياهو بغزة وتطالبه بالاستقالة أوامر محتملة من الجنائية الدولية بإعتقال مسؤولين إسرائيليين كبار تنسيق بين أيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا للاعتراف بدولة فلسطين أرفع وسام مدني بالأردن.. الملك يمنح أمير الكويت قلادة الحسين بن علي تقرير: ضباط كبار في جيش الاحتلال يستعدون للاستقالة.. تفاصيل السيارات الكهربائية تغزو شوارع الأردن.. ما مصير محطات الوقود؟ البنك المركزي يعمم بشأن عطلة البنوك في يوم العمال حادث سير على مدخل نفق خلدا.. والسير تنوه السائقين بعد محاصرة تحركاته.. مطلوب ثالث من مطلوبي الرويشد يسلّم نفسه للأمن بلاغ من رئيس الوزراء بخصوص عطلة عيدي الشعانين والفصح إغلاقات واعتقالات في الجامعات الأميركية بسبب الحرب على غزة