للوهلة الأولى، لا يبدو هناك وجهٌ للشبه بين أوكرانيا والسودان، يجعل منهما عنواناً لمقال صحفي، لكنك حين تُحاول أن تقترب من الصورة أكثر ستجد الكثير من ملامح الشبه، خاصة حين تنظر في تاريخ البلدين القريب والأحداث التي شهدتها أرضهما والمصائر التي انتهى أو سينتهي إليها كلاهما.
لا يقف التشابُه بين السودان وأوكرانيا فقط في تساوي عدد سكانهما تقريباً، ولا في كونهما بلدين زراعيين مُؤهّلين للمساهمة بقدر وافر في الأمن الغذائي العالمي، ولكن أيضاً لتشابُه الموقع الجغرافي لكليهما، فأوكرانيا هي الامتداد الطبيعي لأوروبا في آسيا أو العكس، والسُّودان هو الامتداد الطبيعي للعالم العربي في أفريقيا أو العكس، وكلاهما بهذا الموقع الجغرافي يُشكِّل بؤرة اهتمام دولي في سياق التنافُس الدولي والصراع على النفوذ.
في العام ١٩٢٢ أوجد المستعمر البريطاني الذي كان يُخضع السودان لحكمه، قانون "المناطق المقفولة” الذي بمُوجبه تَمّ عزل جنوب السودان بكامله ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق عن بقية السودان، فأصبح غير مسموح للسوداني مِن وسط السودان أو شرقه أو شماله أو غربه الذهاب إلى "المناطق المقفولة” إلا بإذن من السلطة الاستعمارية، وحين يُؤذن له بالذهاب يُمنع من ممارسة الشعائر الدينية الإسلامية أمام السكان، وسُمح في ذات الوقت للتبشير المسيحي "الكنيسة الكاثوليكية والانجيلكانية” بالعمل في تلك المناطق، وكان الغرض وراء هذا القرار هو الذين يدينون بالإسلامتغذية بين السُّودانيين من الأصول العربية والأفريقية ولم يتم إلغاء ذلك القانون إلا في العام ١٩٤٧ بعد أن أحدث أثره المطلوب، وهكذا تم خلق الأرضية اللازمة لنشوء صراع يتغذى من العِرق ومن الدين بين جزئين من الوطن!!
حتى بعد أن نال السُّودان استقلاله، تبنت الدول الغربية، وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية احتضان جنوب السودان ودعمه في صراعه مع السلطة المركزية في الخرطوم بناءً على ذلك التقسيم، وحرصت على وصفه بـ”ذي الغالبية المسيحية والأرواحية” في مقابل الشمال "ذي الغالبية العربية المسلمة”، وعلى هذا الأساس بنى الغرب المسيحي، سياساته ضد الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في الخرطوم إلى أن أمكنه تقسيم السُّودان إلى بلدين لا يزال كلاهما يعاني تبعات ذلك من حروب أهلية وعجز اقتصادي ودمار للبنية التحتية وتنازع سياسي.
وحين تُسقط هذه المعادلة أو الصورة على أوكرانيا ستجدها منطبقة تماماً، مع القليل من الفوارق التي اقتضتها بعض المعادلات، فالمشكلة في أوكرانيا ليست بين شمال البلاد وجنوبها كما في حالة السُّودان، وإنما بين شرقها وغربها، وليست بين أغلبية ذات أصول عربية وأقلية أصولها أفريقية، وإنما بين أغلبية أوكرانية في الغرب وأقلية روسية في الشرق، ومن عجائب الصدف أن النسبة بين الأكثرية والأقلية في الحالتين متقاربة، فنسبة الأوكرانيين من أصول روسية تساوي 17% من السكان!!
عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، عمد الغرب إلى فصل الكنيسة الأوكرانية من الكنيسة الروسية، وغلّب المذهب الكنسي الكاثوليكي الغربي على المذهب الأرثوذكسي الشرقي فأسس بذلك لخلق وتعميق مشكلة ذات بُعدين عِرقي وديني كما في حالة السُّودان، ولم يقف الغرب عند هذا الحد، بل عمل بجدٍ واجتهاد على أن تكون أوكرانيا رأس رمح في استراتيجية إضعاف الدولة الروسية، خاصة بعد وصول بوتين إلى السلطة وعزمه على إحياء مجد بلاده على النحو الذي يراه مُستحَقاً، تماماً مثلما جعل من جنوب السودان رأس الرمح في مواجهة نظام الإنقاذ الذي أراد أن يكون السُّودان مستقلاً في قراره ومواقفه وذهب بعيداً في "التمرد” على النفوذ الغربي.
نجحت الخطط الغربية في تقسيم السُّودان وفصل جنوبه بعد حصار دبلوماسي واقتصادي ظالم، لكنها لم تنجح في إقامة "هونغ كونغ” في قلب القارة الأفريقية بعد فصل الجنوب، ودفع مواطنو السُّودان القديم والجديد ثمن الحروب التي جرت على أرضهم خراباً ودماراً وتشرداً ولجوءاً، بينما بقيت الدول الغربية تتفرّج على المأساة وترمي أحياناً بفوائض إنتاج مزارعيها على سكان بلدٍ كان من المؤمل أن يُطعم هو جوعى قارته. وها هي الاستراتيجية الغربية تمضي في أوكرانيا على ذات النسق وستقود إلى ذات النتيجة!!
طال الزمن أو قَصُر فستنتهي الحرب في أوكرانيا، وسينتبه الأوكرانيون ليجدوا أنفسهم فوق أرضٍ دمّرت آلة الحرب بنيتها التحتية من مصانع ومطارات وجسور، وستجد الدولة الأوكرانية أن أسلحتها الثقيلة وطائراتها العسكرية وكل بنيتها الصناعية قد عادت إلى قرون ما قبل العصر الصناعي مثلما حدث للعراق، وستفيق القيادة الأوكرانية –إن أفاقت– لتجد شعبها وقد جُرّبت فوق أرضه، أحدث ما أنتجته تكنولوجيا السلاح والمعدات العسكرية، وسيكتشف أن المعونات الغريبة التي تدفّقت نحوه ليست لأجل خضرة عيونه، ولا دفاعاً عن حريته كما تزعم أمريكا وأوروبا، وإنما رغبة في الكيد لخصم سياسي يُراد له ألاّ يقوى فيشكِّل تهديداً لمصالحهم!!
لم تفضح الحرب الروسية على أوكرانيا النفاق الغربي وازدواجية المعايير فيما يتعلّق بقضايا اللجوء والهجرة ولا تحيُّزات الإعلام، وإنما كشفت أيضاً أن قضايا السلم والأمن الدوليين لا تعدو أن تكون أجندات توظفها الدول الغربية لخدمة مصالحها الذاتية، وأن قضايا مثل الديمقراطية والحرية الدينية ومكافحة الإرهاب يتم توظيفها لخدمة المصالح الغربية حتى لو أدّى ذلك إلى سحق الشعوب الأخرى وخراب أرضها.
في أوكرانيا، كما في السودان، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان، ابحثوا عن أحدث أشكال الأنانية وعن أسباب الخراب الذي يَدفع ثمنه الكثير من شعوب العالم، فستجدون أمريكا وحلفاءها هناك يقفون حُرّاساً لبابه!!
لا يقف التشابُه بين السودان وأوكرانيا فقط في تساوي عدد سكانهما تقريباً، ولا في كونهما بلدين زراعيين مُؤهّلين للمساهمة بقدر وافر في الأمن الغذائي العالمي، ولكن أيضاً لتشابُه الموقع الجغرافي لكليهما، فأوكرانيا هي الامتداد الطبيعي لأوروبا في آسيا أو العكس، والسُّودان هو الامتداد الطبيعي للعالم العربي في أفريقيا أو العكس، وكلاهما بهذا الموقع الجغرافي يُشكِّل بؤرة اهتمام دولي في سياق التنافُس الدولي والصراع على النفوذ.
في العام ١٩٢٢ أوجد المستعمر البريطاني الذي كان يُخضع السودان لحكمه، قانون "المناطق المقفولة” الذي بمُوجبه تَمّ عزل جنوب السودان بكامله ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق عن بقية السودان، فأصبح غير مسموح للسوداني مِن وسط السودان أو شرقه أو شماله أو غربه الذهاب إلى "المناطق المقفولة” إلا بإذن من السلطة الاستعمارية، وحين يُؤذن له بالذهاب يُمنع من ممارسة الشعائر الدينية الإسلامية أمام السكان، وسُمح في ذات الوقت للتبشير المسيحي "الكنيسة الكاثوليكية والانجيلكانية” بالعمل في تلك المناطق، وكان الغرض وراء هذا القرار هو الذين يدينون بالإسلامتغذية بين السُّودانيين من الأصول العربية والأفريقية ولم يتم إلغاء ذلك القانون إلا في العام ١٩٤٧ بعد أن أحدث أثره المطلوب، وهكذا تم خلق الأرضية اللازمة لنشوء صراع يتغذى من العِرق ومن الدين بين جزئين من الوطن!!
حتى بعد أن نال السُّودان استقلاله، تبنت الدول الغربية، وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية احتضان جنوب السودان ودعمه في صراعه مع السلطة المركزية في الخرطوم بناءً على ذلك التقسيم، وحرصت على وصفه بـ”ذي الغالبية المسيحية والأرواحية” في مقابل الشمال "ذي الغالبية العربية المسلمة”، وعلى هذا الأساس بنى الغرب المسيحي، سياساته ضد الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في الخرطوم إلى أن أمكنه تقسيم السُّودان إلى بلدين لا يزال كلاهما يعاني تبعات ذلك من حروب أهلية وعجز اقتصادي ودمار للبنية التحتية وتنازع سياسي.
وحين تُسقط هذه المعادلة أو الصورة على أوكرانيا ستجدها منطبقة تماماً، مع القليل من الفوارق التي اقتضتها بعض المعادلات، فالمشكلة في أوكرانيا ليست بين شمال البلاد وجنوبها كما في حالة السُّودان، وإنما بين شرقها وغربها، وليست بين أغلبية ذات أصول عربية وأقلية أصولها أفريقية، وإنما بين أغلبية أوكرانية في الغرب وأقلية روسية في الشرق، ومن عجائب الصدف أن النسبة بين الأكثرية والأقلية في الحالتين متقاربة، فنسبة الأوكرانيين من أصول روسية تساوي 17% من السكان!!
عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، عمد الغرب إلى فصل الكنيسة الأوكرانية من الكنيسة الروسية، وغلّب المذهب الكنسي الكاثوليكي الغربي على المذهب الأرثوذكسي الشرقي فأسس بذلك لخلق وتعميق مشكلة ذات بُعدين عِرقي وديني كما في حالة السُّودان، ولم يقف الغرب عند هذا الحد، بل عمل بجدٍ واجتهاد على أن تكون أوكرانيا رأس رمح في استراتيجية إضعاف الدولة الروسية، خاصة بعد وصول بوتين إلى السلطة وعزمه على إحياء مجد بلاده على النحو الذي يراه مُستحَقاً، تماماً مثلما جعل من جنوب السودان رأس الرمح في مواجهة نظام الإنقاذ الذي أراد أن يكون السُّودان مستقلاً في قراره ومواقفه وذهب بعيداً في "التمرد” على النفوذ الغربي.
نجحت الخطط الغربية في تقسيم السُّودان وفصل جنوبه بعد حصار دبلوماسي واقتصادي ظالم، لكنها لم تنجح في إقامة "هونغ كونغ” في قلب القارة الأفريقية بعد فصل الجنوب، ودفع مواطنو السُّودان القديم والجديد ثمن الحروب التي جرت على أرضهم خراباً ودماراً وتشرداً ولجوءاً، بينما بقيت الدول الغربية تتفرّج على المأساة وترمي أحياناً بفوائض إنتاج مزارعيها على سكان بلدٍ كان من المؤمل أن يُطعم هو جوعى قارته. وها هي الاستراتيجية الغربية تمضي في أوكرانيا على ذات النسق وستقود إلى ذات النتيجة!!
طال الزمن أو قَصُر فستنتهي الحرب في أوكرانيا، وسينتبه الأوكرانيون ليجدوا أنفسهم فوق أرضٍ دمّرت آلة الحرب بنيتها التحتية من مصانع ومطارات وجسور، وستجد الدولة الأوكرانية أن أسلحتها الثقيلة وطائراتها العسكرية وكل بنيتها الصناعية قد عادت إلى قرون ما قبل العصر الصناعي مثلما حدث للعراق، وستفيق القيادة الأوكرانية –إن أفاقت– لتجد شعبها وقد جُرّبت فوق أرضه، أحدث ما أنتجته تكنولوجيا السلاح والمعدات العسكرية، وسيكتشف أن المعونات الغريبة التي تدفّقت نحوه ليست لأجل خضرة عيونه، ولا دفاعاً عن حريته كما تزعم أمريكا وأوروبا، وإنما رغبة في الكيد لخصم سياسي يُراد له ألاّ يقوى فيشكِّل تهديداً لمصالحهم!!
لم تفضح الحرب الروسية على أوكرانيا النفاق الغربي وازدواجية المعايير فيما يتعلّق بقضايا اللجوء والهجرة ولا تحيُّزات الإعلام، وإنما كشفت أيضاً أن قضايا السلم والأمن الدوليين لا تعدو أن تكون أجندات توظفها الدول الغربية لخدمة مصالحها الذاتية، وأن قضايا مثل الديمقراطية والحرية الدينية ومكافحة الإرهاب يتم توظيفها لخدمة المصالح الغربية حتى لو أدّى ذلك إلى سحق الشعوب الأخرى وخراب أرضها.
في أوكرانيا، كما في السودان، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان، ابحثوا عن أحدث أشكال الأنانية وعن أسباب الخراب الذي يَدفع ثمنه الكثير من شعوب العالم، فستجدون أمريكا وحلفاءها هناك يقفون حُرّاساً لبابه!!