في حين يحاول الاقتصاد العالمي تعويض ما خسره بانكماشه في العام السابق بسبب نشوب الجائحة تأبى الأيام الباقية من هذه السنة إلا وتتحداه بالمتحور الجديد – «أوميكرون» - ليزيد من حالة اللايقين التي تشهدها الأسواق، ثم تأتي زيادات متوالية للأسعار كضربات موجعة في وجه محاولات التعافي. فقد تعرضت الاقتصادات المتقدمة لزيادات في معدلات التضخم لم تشهدها منذ أربعين سنة. وكانت أعلى معدلات الزيادة من نصيب الولايات المتحدة التي وصل فيها معدل التغير في الرقم القياسي لأسعار المستهلكين إلى 6.8 في المائة، وهو ما لم تشهده في تاريخها المعاصر منذ عام 1982. ومع تراجع أرقام استطلاعات شعبية الرئيس الأميركي جو بايدن، واقترابه وحزبه من صناديق اقتراع على أدائه في الانتخابات النصفية للبرلمان، لجأ الرئيس وأنصاره إلى التقليل من وزن بيانات التضخم، مشيرين إلى أن «البيانات عن زيادات الأسعار وتكاليف المعيشة في تراجع، ولكن ليس بالدرجة المأمولة».
ما يعني سائر العالم المتأثر بمجريات الأمور في أكبر اقتصاد فيه، هو ما سيتخذه البنك الفيدرالي الأميركي من إجراءات نقدية ستؤثر على أسعار الفائدة العالمية وتكلفة الاقتراض في خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. فقد أدرك أخيراً القائمون على رأس البنك المصدر لأكبر عملة دولية في التداول، أن التضخم هذه المرة ليس مؤقتاً عابراً بسرعة كما كانوا يقدرون ويتمنون. فالتضخم سيكون أكثر استمراراً بفعل عوامل تراجع عرض المنتجات لارتباك سلاسل الإمداد وزيادة تكلفة النقل والشحن، مع زيادة في الطلب المتأجج مدفوعاً بما ضخ به من سيولة على مدار عامي الجائحة في الدول المتقدمة. وحتى تتواءم خطوط الإنتاج وتزداد الإنتاجية أيضاً بما سيستغرقه ذلك من زمن واستثمارات ستضطر الإدارة النقدية لكبح جماح التضخم بما اعتادت عليه من رفع لسعر الفائدة بعدما تقوم بسحب لإجراءات التيسير النقدي وبرامج شراء الأصول المالية التي تقدر بنحو 120 مليار دولار شهرياً، بسرعة أكبر مما كانت تخطط له. وتتوقف سرعة هذه الإجراءات ومدى رفع أسعار الفائدة على ما سترشد إليه البيانات المحدثة عن مسار معدل التضخم الفعلي، وكذلك ما تستشرفه الإدارة النقدية ونماذجها القياسية للتنبؤ عن توجهات المستثمرين والمستهلكين بشأن احتمالات زيادات الأسعار وتوقعاتهم وسلوكهم حيالها.
ومن المتعارف عليه، أن إبقاء معدلات التضخم في حدود منخفضة، كانت تبلغ في حالة الدول المتقدمة متوسط 2 في المائة سنوياً، من ضمانات الاستقرار الاقتصادي، ومن المتفهم أن تكون هذه المتوسطات أعلى من ذلك في الدول النامية لمشكلات هيكلية ومؤسسية في اقتصاداتها على ألا تتجاوز آحاد الأرقام. ومما اتفق عليه الاقتصاديون ورجال السياسة، أن هدف استقرار الأسعار هو من أولويات السياسات العامة. فرغم الاختلاف الشاسع في الرؤى بين الاقتصادي الإنجليزي الأشهر جون ماينارد كينز والثوري الروسي الماركسي فلاديمير لينين، تجد كينز موافقاً للينين في رأيه بأن أفضل طريقة لتدمير النظام الاقتصادي لدولة هو باستنزاف قيمة عملتها.
وقد مرت دول بحالات غلاء شديد جعلت عملاتها بلا قيمة تعادل تكلفة حملها؛ فاستحالت الحياة باستقرار مع هذا الغلاء الذي جعل من عملات البنكنوت وقوداً لأفران تدفئة المنازل كما حدث بألمانيا في العشرينات من القرن الماضي بارتفاع التضخم إلى 500 في المائة في الشهر الواحد، بما كان من ممهدات صعود الحركة النازية بنهايتها المعروفة مروراً بالحرب العالمية الثانية. ومن حالات الغلاء الشديد ما تعرضت له زيمبابوي في عام 2008 وفنزويلا منذ خمسة أعوام.
كما تعد معدلات التضخم المرتفعة من أكثر أنواع الضرائب سوءاً وقسوة وإضراراً بالحقوق. فسوؤها يرجع لأنها تفرض من دون تشريع، فهي ضريبة بلا نص في القانون يحدد وعاءها أو مناسبة فرضها. أما قسوتها، فترجع لعدم عدالتها بعدم تفرقتها بين موسر أو فقير. أما إضرارها بالحقوق فلإخلالها بالعقود إذا ما ثبتت قيمة العقود عند مبلغ محدد بلا تغيير مع مرور الزمن، أو كان الاتفاق على تغييرها عند معدل أقل من معدل التضخم. ولتنظر ماذا حل بعقود إيجار ثبتت عند أسقف لم تتجاوزها رغم ارتفاع التضخم انتقاصاً من قيمة النقود وأثر ذلك على حقوق الملاك وصيانة الثروة العقارية، ولتنظر أيضاً إلى أصحاب رواتب وأجور ومعاشات ثابتة لم تتغير بما يتناسب مع غلاء الأسعار، ولتراجع الأوضاع المالية لمودعين لا يتناسب العائد على ودائعهم مع ارتفاع التضخم. ولما كان علاج مثل هذه الاختلالات مكلفاً فالأولى احتواء الضرر قبل وقوعه بالسيطرة على التضخم ابتداءً، مع تحقيق زيادات منضبطة تتوافق مع آليات السوق وتغيراتها واعتبارات العدالة والضمان الاجتماعي. ولهذه الشواهد التاريخية والمعاصرة لفقدان النقود لقيمتها مع حالات الغلاء الشديد وتداعياتها السياسية والاجتماعية والأمنية، لا تنتظر البنوك المركزية الحصيفة حتى تتحول زيادات الأسعار إلى موجات تضخمية، أو تزيدها هياجاً بمزيد من إصدار نقدي لا تقابله زيادة في الناتج. وفي ظل هذه التطورات القائمة والمتوقعة هناك أربع أولويات:
أولاً، مراعاة تأثير التقييد النقدي واحتمال رفع أسعار الفائدة على تدفقات رؤوس الأموال إلى الدول النامية؛ فقد نشرت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» البريطانية تقريراً بداية هذا الأسبوع مفاده، أن التدفقات المالية للأسواق الناشئة تحولت إلى أرقام سالبة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك لأول مرة منذ مارس (آذار) 2020 في أعقاب الجائحة. وقد تزامن ذلك مع ارتفاع في سعر الدولار أمام العملات الأجنبية كرد فعل لبدء التحول في السياسة النقدية الأميركية نحو التقييد الائتماني ورفع سعر الفائدة.
ثانياً، مراجعة الإطار العام لمجموعة العشرين بشأن معالجة الديون؛ فمنذ الإعلان عن هذا الإطار العام في عام 2020 لم تتقدم للاستفادة منه إلا ثلاث دول منخفضة الدخل وعالية المديونية، وهي تشاد وإثيوبيا وزامبيا، وتوضح تجربتهم أن هذا الإطار في حاجة إلى مراجعة في معالجته لمشكلات الديون المتعثرة. فبعدما قررت مجموعة العشرين تجميد آلية إرجاء سداد الديون للدول الأفقر، بات تطوير إطار معالجة الديون أكثر إلحاحاً، علماً بأنه يعاني أصلاً من عدم شموله الدائنين كافة كالقطاع الخاص بشكل محفز وهو لا يتضمن المدينين من الدول متوسطة الدخل كمنتفعين بقواعده. ومع زيادات معدلات التضخم وأسعار الفائدة العالمية سيزداد احتمال وقوع مزيد من الدول النامية في فخ التعثر كما حذّر كاتب هذه السطور من قبل، ولا يوجد حتى اليوم إطار فعال لمعالجة الديون المتعثرة وتسويتها بشكل عادل. وقد طالبت مبادرة الأمم المتحدة المعروفة بـ«تمويل التنمية في عصر الجائحة وما بعدها» بضرورة وضع آليات للتوقي من التعثر بتوفير السيولة وإرجاء تحصيل أقساط الديون ووضع قواعد لتسوية المديونيات من خلال إطار منضبط ومرن وفعال للتعاون الدولي، وما تم حتى الآن ليس كافياً لمنع أزمة، أو احتوائها بيسر إذا حدثت.
ثالثاً، ضرورة التعامل المتوازن والعاجل مع تغيرات المناخ. فلا يكفي ما أُعلن في غلاسكو عن تعهدات الحياد الكربوني من خلال تخفيف الانبعاثات، ولكن ينبغي أيضاً توجيه استثمارات لا مزيد من الديون للدول النامية لاحتواء تكاليف التكيف مع تدهور في المناخ لم تتسبب فيه، كما يتطلب الأمر إدارة عملية التحول في إطار سياسة اقتصادية وتنموية متكاملة، فحالة الارتجال والانفعال في التعامل مع تحديات المناخ من شأنها أن تزيد من الاختناقات في توفير مصادر الطاقة مع عدم إتاحة مصادر بديلة مما ألجأ دولاً أوروبية إلى إعادة تشغيل محطات تدار بالفحم الأكثر تلويثاً مع ارتفاع في تكلفة مزيج الوقود والأسعار. كما أن عدم الإدارة الكفؤة لما تتطلبه التكنولوجيا الخضراء من مصادر تعدينية ستسبب تضخماً في أسعارها مثلما حدث لأسعار الليثيوم والكوبالت والنيكل والمنجنيز وغيرها. والحل كما أوضحت في مقالات سابقة، هو وضع إجراءات وسياسات وتمويل تغيرات المناخ في الإطار الاقتصادي والمالي لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة.
رابعاً، قد لا يكون مألوفاً لمن ينصبّ اهتمامه على إجراءات الأجل القصير في مكافحة التضخم، أن يجري التأكيد على أهمية الاستثمار العام والخاص في مواجهة التضخم خاصة في الدول النامية. فالتضخم الراهن يأتي مع عدم اكتمال تعافي الاقتصاد، وإذا كان يصلح لأميركا ودول أخرى متقدمة أن تركز على إجراءات السياسة النقدية، فإن علاج التضخم ومنعه من التحول إلى غلاء في البلدان النامية أكثر تعقيداً. فمع ضرورة التنسيق بين السياسات النقدية والمالية ودعم نظم الضمان الاجتماعي، يلزم الأمر زيادة في الاستثمارات عامة وخاصة وأجنبية لتحقيق زيادة في الناتج والإنتاجية معاً. وتشمل هذه، الاستثمارات في تطوير وصيانة البنية الأساسية، ومراجعة المشروعات الإنتاجية والطاقات المعطلة، والتركيز على المشروعات ذات القيمة المضافة والبحث والابتكار والتطوير، بما في ذلك مجالات التحول الرقمي والاقتصاد الأخضر وتلك المولدة لفرص العمل وتفعيل نظم المشاركة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص بما يحقق النفع لعموم الناس.
ما يعني سائر العالم المتأثر بمجريات الأمور في أكبر اقتصاد فيه، هو ما سيتخذه البنك الفيدرالي الأميركي من إجراءات نقدية ستؤثر على أسعار الفائدة العالمية وتكلفة الاقتراض في خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. فقد أدرك أخيراً القائمون على رأس البنك المصدر لأكبر عملة دولية في التداول، أن التضخم هذه المرة ليس مؤقتاً عابراً بسرعة كما كانوا يقدرون ويتمنون. فالتضخم سيكون أكثر استمراراً بفعل عوامل تراجع عرض المنتجات لارتباك سلاسل الإمداد وزيادة تكلفة النقل والشحن، مع زيادة في الطلب المتأجج مدفوعاً بما ضخ به من سيولة على مدار عامي الجائحة في الدول المتقدمة. وحتى تتواءم خطوط الإنتاج وتزداد الإنتاجية أيضاً بما سيستغرقه ذلك من زمن واستثمارات ستضطر الإدارة النقدية لكبح جماح التضخم بما اعتادت عليه من رفع لسعر الفائدة بعدما تقوم بسحب لإجراءات التيسير النقدي وبرامج شراء الأصول المالية التي تقدر بنحو 120 مليار دولار شهرياً، بسرعة أكبر مما كانت تخطط له. وتتوقف سرعة هذه الإجراءات ومدى رفع أسعار الفائدة على ما سترشد إليه البيانات المحدثة عن مسار معدل التضخم الفعلي، وكذلك ما تستشرفه الإدارة النقدية ونماذجها القياسية للتنبؤ عن توجهات المستثمرين والمستهلكين بشأن احتمالات زيادات الأسعار وتوقعاتهم وسلوكهم حيالها.
ومن المتعارف عليه، أن إبقاء معدلات التضخم في حدود منخفضة، كانت تبلغ في حالة الدول المتقدمة متوسط 2 في المائة سنوياً، من ضمانات الاستقرار الاقتصادي، ومن المتفهم أن تكون هذه المتوسطات أعلى من ذلك في الدول النامية لمشكلات هيكلية ومؤسسية في اقتصاداتها على ألا تتجاوز آحاد الأرقام. ومما اتفق عليه الاقتصاديون ورجال السياسة، أن هدف استقرار الأسعار هو من أولويات السياسات العامة. فرغم الاختلاف الشاسع في الرؤى بين الاقتصادي الإنجليزي الأشهر جون ماينارد كينز والثوري الروسي الماركسي فلاديمير لينين، تجد كينز موافقاً للينين في رأيه بأن أفضل طريقة لتدمير النظام الاقتصادي لدولة هو باستنزاف قيمة عملتها.
وقد مرت دول بحالات غلاء شديد جعلت عملاتها بلا قيمة تعادل تكلفة حملها؛ فاستحالت الحياة باستقرار مع هذا الغلاء الذي جعل من عملات البنكنوت وقوداً لأفران تدفئة المنازل كما حدث بألمانيا في العشرينات من القرن الماضي بارتفاع التضخم إلى 500 في المائة في الشهر الواحد، بما كان من ممهدات صعود الحركة النازية بنهايتها المعروفة مروراً بالحرب العالمية الثانية. ومن حالات الغلاء الشديد ما تعرضت له زيمبابوي في عام 2008 وفنزويلا منذ خمسة أعوام.
كما تعد معدلات التضخم المرتفعة من أكثر أنواع الضرائب سوءاً وقسوة وإضراراً بالحقوق. فسوؤها يرجع لأنها تفرض من دون تشريع، فهي ضريبة بلا نص في القانون يحدد وعاءها أو مناسبة فرضها. أما قسوتها، فترجع لعدم عدالتها بعدم تفرقتها بين موسر أو فقير. أما إضرارها بالحقوق فلإخلالها بالعقود إذا ما ثبتت قيمة العقود عند مبلغ محدد بلا تغيير مع مرور الزمن، أو كان الاتفاق على تغييرها عند معدل أقل من معدل التضخم. ولتنظر ماذا حل بعقود إيجار ثبتت عند أسقف لم تتجاوزها رغم ارتفاع التضخم انتقاصاً من قيمة النقود وأثر ذلك على حقوق الملاك وصيانة الثروة العقارية، ولتنظر أيضاً إلى أصحاب رواتب وأجور ومعاشات ثابتة لم تتغير بما يتناسب مع غلاء الأسعار، ولتراجع الأوضاع المالية لمودعين لا يتناسب العائد على ودائعهم مع ارتفاع التضخم. ولما كان علاج مثل هذه الاختلالات مكلفاً فالأولى احتواء الضرر قبل وقوعه بالسيطرة على التضخم ابتداءً، مع تحقيق زيادات منضبطة تتوافق مع آليات السوق وتغيراتها واعتبارات العدالة والضمان الاجتماعي. ولهذه الشواهد التاريخية والمعاصرة لفقدان النقود لقيمتها مع حالات الغلاء الشديد وتداعياتها السياسية والاجتماعية والأمنية، لا تنتظر البنوك المركزية الحصيفة حتى تتحول زيادات الأسعار إلى موجات تضخمية، أو تزيدها هياجاً بمزيد من إصدار نقدي لا تقابله زيادة في الناتج. وفي ظل هذه التطورات القائمة والمتوقعة هناك أربع أولويات:
أولاً، مراعاة تأثير التقييد النقدي واحتمال رفع أسعار الفائدة على تدفقات رؤوس الأموال إلى الدول النامية؛ فقد نشرت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» البريطانية تقريراً بداية هذا الأسبوع مفاده، أن التدفقات المالية للأسواق الناشئة تحولت إلى أرقام سالبة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك لأول مرة منذ مارس (آذار) 2020 في أعقاب الجائحة. وقد تزامن ذلك مع ارتفاع في سعر الدولار أمام العملات الأجنبية كرد فعل لبدء التحول في السياسة النقدية الأميركية نحو التقييد الائتماني ورفع سعر الفائدة.
ثانياً، مراجعة الإطار العام لمجموعة العشرين بشأن معالجة الديون؛ فمنذ الإعلان عن هذا الإطار العام في عام 2020 لم تتقدم للاستفادة منه إلا ثلاث دول منخفضة الدخل وعالية المديونية، وهي تشاد وإثيوبيا وزامبيا، وتوضح تجربتهم أن هذا الإطار في حاجة إلى مراجعة في معالجته لمشكلات الديون المتعثرة. فبعدما قررت مجموعة العشرين تجميد آلية إرجاء سداد الديون للدول الأفقر، بات تطوير إطار معالجة الديون أكثر إلحاحاً، علماً بأنه يعاني أصلاً من عدم شموله الدائنين كافة كالقطاع الخاص بشكل محفز وهو لا يتضمن المدينين من الدول متوسطة الدخل كمنتفعين بقواعده. ومع زيادات معدلات التضخم وأسعار الفائدة العالمية سيزداد احتمال وقوع مزيد من الدول النامية في فخ التعثر كما حذّر كاتب هذه السطور من قبل، ولا يوجد حتى اليوم إطار فعال لمعالجة الديون المتعثرة وتسويتها بشكل عادل. وقد طالبت مبادرة الأمم المتحدة المعروفة بـ«تمويل التنمية في عصر الجائحة وما بعدها» بضرورة وضع آليات للتوقي من التعثر بتوفير السيولة وإرجاء تحصيل أقساط الديون ووضع قواعد لتسوية المديونيات من خلال إطار منضبط ومرن وفعال للتعاون الدولي، وما تم حتى الآن ليس كافياً لمنع أزمة، أو احتوائها بيسر إذا حدثت.
ثالثاً، ضرورة التعامل المتوازن والعاجل مع تغيرات المناخ. فلا يكفي ما أُعلن في غلاسكو عن تعهدات الحياد الكربوني من خلال تخفيف الانبعاثات، ولكن ينبغي أيضاً توجيه استثمارات لا مزيد من الديون للدول النامية لاحتواء تكاليف التكيف مع تدهور في المناخ لم تتسبب فيه، كما يتطلب الأمر إدارة عملية التحول في إطار سياسة اقتصادية وتنموية متكاملة، فحالة الارتجال والانفعال في التعامل مع تحديات المناخ من شأنها أن تزيد من الاختناقات في توفير مصادر الطاقة مع عدم إتاحة مصادر بديلة مما ألجأ دولاً أوروبية إلى إعادة تشغيل محطات تدار بالفحم الأكثر تلويثاً مع ارتفاع في تكلفة مزيج الوقود والأسعار. كما أن عدم الإدارة الكفؤة لما تتطلبه التكنولوجيا الخضراء من مصادر تعدينية ستسبب تضخماً في أسعارها مثلما حدث لأسعار الليثيوم والكوبالت والنيكل والمنجنيز وغيرها. والحل كما أوضحت في مقالات سابقة، هو وضع إجراءات وسياسات وتمويل تغيرات المناخ في الإطار الاقتصادي والمالي لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة.
رابعاً، قد لا يكون مألوفاً لمن ينصبّ اهتمامه على إجراءات الأجل القصير في مكافحة التضخم، أن يجري التأكيد على أهمية الاستثمار العام والخاص في مواجهة التضخم خاصة في الدول النامية. فالتضخم الراهن يأتي مع عدم اكتمال تعافي الاقتصاد، وإذا كان يصلح لأميركا ودول أخرى متقدمة أن تركز على إجراءات السياسة النقدية، فإن علاج التضخم ومنعه من التحول إلى غلاء في البلدان النامية أكثر تعقيداً. فمع ضرورة التنسيق بين السياسات النقدية والمالية ودعم نظم الضمان الاجتماعي، يلزم الأمر زيادة في الاستثمارات عامة وخاصة وأجنبية لتحقيق زيادة في الناتج والإنتاجية معاً. وتشمل هذه، الاستثمارات في تطوير وصيانة البنية الأساسية، ومراجعة المشروعات الإنتاجية والطاقات المعطلة، والتركيز على المشروعات ذات القيمة المضافة والبحث والابتكار والتطوير، بما في ذلك مجالات التحول الرقمي والاقتصاد الأخضر وتلك المولدة لفرص العمل وتفعيل نظم المشاركة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص بما يحقق النفع لعموم الناس.