وفي هذا المقال نسلط الضوء على مجموعة المتغيرات التي قد تؤثر على تموضعها وصناعة قرارها المستقبلي تجاه فلسطين والعالم العربي. وهو جانب مما كان قد طرحه كاتب هذه السطور في مؤتمر دولي أقامه منتدى آسيا والشرق الأوسط، حول الصين والقضية الفلسطينية؛ ويحبُّ أن يشارك القارئ الكريم بعض الأفكار التي طرحها.
عندما يقفز الناتج المحلي الإجمالي للصين من 1.66 تريليون دولار أمريكي سنة 2003 إلى 14.72 تريليون دولار سنة 2020، بزيادة 887 في المائة، وعندما تقفز النفقات العسكرية للفترة نفسها من 33 ملياراً إلى 252 ملياراً تقريباً بزيادة 760 في المائة، وبميزانية تزيد عن ميزانيات روسيا وبريطانيا وفرنسا والهند مجتمعة، وعندما تقفز براءات الاختراع من نحو 32 ألفاً سنة 2007 إلى نحو 361 ألفاً سنة 2019، مقابل 167 ألفا للولايات المتحدة (راجع المقال المشار إليه أعلاه)؛ فإن هذا يعني ضمن مؤشرات أخرى عديدة أن الصين وصلت عالمياً إلى تموضع جديد، قد ينعكس بشكل أو بآخر على سياستها الدولية الخارجية، وعلى سياستها تجاه "الشرق الأوسط" وقضية فلسطين.
متغيرات عربية وإسرائيلية:
يظهر المتغير الأول في تطور العلاقات الاقتصادية الصينية العربية، حيث كان النفط والتبادل التجاري نقطة الجذب الرئيسي لهذه العلاقات. فقد قفز حجم التبادل العربي مع الصين من 36.7 مليار دولار سنة 2004 إلى نحو 266.4 ملياراً سنة 2019، بزيادة 726 في المائة. وتعتمد الصين في استيراد نحو نصف احتياجاتها من النفط على البلاد العربية. كما أن الدول العربية شريك رئيس (13 دولة مشاركة) في مشروع الحزام والطريق الذي تعتمد عليه الصين مستقبلاً في تنمية اقتصادها العالمي. وعلى ذلك، فإن المنطقة العربية قد أصبحت ذات ثقل كبير في موازين المصالح الاقتصادية الصينية، غير أن حالة الضعف والتخلف والتشرذم التي تشهدها المنطقة تُضعف وزنها الاستراتيجي، وتضعف قدرتها على التأثير في الحسابات الخارجية الصينية.
ومن ناحية ثانية، فإن ضعف أداء منظمة التحرير الفلسطينية وتراجع فاعليتها فلسطينياً وعربياً ودولياً، مع تصاعد الدور الوظيفي "البائس" للسلطة الفلسطينية؛ مصحوباً بتشرذم الموقف العربي، وحالة النزيف والصراعات الداخلية في عدد من البلدان، وتزايد موجة التطبيع العربية مع الكيان الصهيوني، أضعف من القدرة على التأثير الفعال في السياسة الصينية تجاه قضية فلسطين، وتجاه القضايا العربية المختلفة.
من ناحية ثالثة، فثمة تراجع في حاجة الصين إلى "إسرائيل" في ما يتعلق بالسلاح والتكنولوجيا، وفي كونها بوابة أمريكية غربية على هذه المجالات. وقد كان ذلك أحد المحددات المهمة التي دفعت الصين لتطوير علاقاتها مع الكيان الصهيوني، خصوصاً في العقدين السابقين. فحسب تقريرين صدرا أواخر 2004، أحدهما عن البنتاجون وآخر عن الكونجرس الأمريكي، أشارا إلى أن "إسرائيل" تُعدّ ثاني أكبر مُصدِّر للسلاح للصين بعد روسيا. كما تحدثت الصحافة الأوروبية عن مبيعات أسلحة إسرائيلية للصين بقيمة مليار و250 مليون دولار سنوياً، مع الإشارة إلى حرص الطرف الإسرائيلي على إخفاء هذه العلاقة، ونفي التقارير المنشورة.
ويبدو أن الضغوط الأمريكية على "إسرائيل" أسهمت في تخفيض حجم صفقات السلاح مع الصين، التي لم تعد تظهر كمصدّر أسلحة مهم للصين. كما أن الكيان الإسرائيلي يراعي القلق الأمريكي المتزايد من انتقال التكنولوجيا الغربية عبر الكيان، ومن تصاعد الدور الصيني في الشرق الأوسط، ومن دخول الصين القوي على الاستثمار في الكيان.
وبالرغم من تطور حجم التبادل التجاري بين الكيان الإسرائيلي والصين من 2.2 مليار دولار سنة 2004 إلى نحو 11.4 مليار دولار سنة 2019، لتقفز من الشريك العاشر إلى الشريك الثاني للكيان؛ فإن حجم التجارة هذا يظلّ ضئيلاً جداً (4.3 في المائة فقط) قياساً بالبلدان العربية. ثم إن التطور التكنولوجي الهائل الذي شهدته الصين قلَّل من الأهمية الحيوية للعلاقة بـ"إسرائيل".
من جهة أخرى، ما تزال الصين بحاجة لعلاقتها بالكيان الإسرائيلي، للاستفادة من اللوبي القوي الذي يملكه في الولايات المتحدة والعالم الغربي؛ أو على الأقل عدم استعدائه بما يُعوِّق مصالحها هناك.
وفي كل الأحوال، فإن تزايد النفوذ الاقتصادي والسياسي الصيني في المنطقة، وحلوله مكان/ أو منافسته للنفوذ الأمريكي يبقى أمراً غير مرغوبٍ "إسرائيلياً" لاعتبارات الخلفيات الثقافية والدينية والاستعمارية الأمريكية الغربية التي تحكم علاقتها بالكيان، وتجعل ارتباطها به أكثر عمقاً، مقابل معايير المصالح الصينية.
العلاقات الصينية الأمريكية:
وتدخل متغيرات العلاقة الصينية مع الولايات المتحدة كمحدد أساس، من ناحية رابعة، للسلوك الصيني في المنطقة. فالقلق الأمريكي من الصعود الصيني أصبح واضحاً. وبالرغم من التفوق الأمريكي الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي؛ إلا أن الصين حققت قفزات هائلة في جَسْرِ الهُوَّة مع أمريكا، باتجاه فرض نفسها، والسعي الحثيث لكسر الهيمنة العالمية الأمريكية، وتحول البيئة الدولية إلى نظام متعدد القطبية. وبالتالي، تزايدَ الشعور الأمريكي بـ"الخطر الصيني" وبصعوبة تحييد الصين، وهو ما دفع الرئيس باراك أوباما سنة 2011 إلى تحويل مركز الاهتمام إلى شاطئي المحيط الهادي.
وبالرغم من حجم التجارة الهائل بين الصين وأمريكا (نحو 560 مليار دولار في سنة 2020)؛ ووجود شبكة مصالح اقتصادية كبيرة بين الطرفين، إلا أن الانسحابات الأمريكية من المنطقة، وارتباك سياساتها وتراجع الثقة حتى لدى الأنظمة الرسمية العربية بأمريكا، يُعطي فرصة أفضل للصين للعب أدوار سياسية أكثر فعالية، فيما لو قررت أن نظريتها في الصعود السلمي قد استنفدت أغراضها، وأنه آن الأوان للعب دور سياسي في الشأن الفلسطيني وقضايا المنطقة.
الحسابات الدينية والثقافية والتاريخية والمصلحية:
من ناحية خامسة، فليس هناك أسس دينية أو ثقافية أو تاريخية لدى الصين للموقف تجاه قضية فلسطين أو قضايا المنطقة، مما يجعلها أكثر تحرراً من المواقف المسبقة؛ وذات تفكير حُرّ غير أسير بالماضي أو الأيديولوجيا. وقد أسهم في ذلك أيضاً أن الصين ليس لديها خلفيات استعمارية أو تاريخ استعماري في المنطقة العربية؛ وهو ما أدى إلى عدم وجود مواقف مسبقة معادية للصين لدى أهل المنطقة. كما أن الحسَّ الصيني العام المناهض للاستعمار والإمبريالية الغربية، يدخل ضمن هذه الاعتبارات.
وفي المقابل، فإن الصين لم تعد أيضاً أسيرةً لأيديولوجيتها الشيوعية، ونُصرتها للشعوب المستضعفة؛ وتراجعت من المواقف القديمة القوية، إلى المواقف السياسية التقليدية الهادئة، المُتجنِّبة للمواجهة مع القوى الدولية. ولذلك، فإن "البراجماتية" والمصالح الصينية العليا هي سيدة الموقف. وبالتالي، فإن السياسة الصينية تجاه قضية فلسطين هي سياسة براجماتية متسقة مع الموقف الدولي، مع الاحتفاظ بقدر من التمايز والخصوصية، في إطار التزامها التقليدي بدولة فلسطينية كاملة السيادة على الأرض المحتلة سنة 1967، وتبني حلّ الدولتين، وفق "الشرعية الدولية"؛ وعدم المشاركة في الرباعية الدولية، والاحتفاظ بعلاقة "باردة" مع حماس، تَصعدُ أو تهبط وفق قدرة حماس على فرض نفسها في المعادلة الفلسطينية وفي المنطقة.
أما الحساسية الصينية تجاه الحركات الدينية الإسلامية، واحتمالات انعكاسها على الوضع الداخلي الصيني، حيث مسلمو الأويغور وغيرهم؛ فإنه يدخل، من ناحية سادسة، في العناصر المؤثرة في السياسة الصينية في المنطقة.
وأخيراً، وسابعاً، فإن الإشكاليات المرتبطة بطبيعة النظام السياسي الصيني، وتركيبته الشيوعية الشمولية، والمتداخلة مع انفتاحه الاقتصادي الرأسمالي، وتأثيرات العولمة، والتغيرات الاجتماعية والسكانية التي حدثت للمجتمع الصيني.. كل ذلك أدخل الصين في حسابات متداخلة معقدة، أضعفت من تأثير الأيديولوجيا، وأسهمت في تكريس "البراجماتية" والمصلحة. لكنها في الوقت نفسه، جعلت الصين نفسها في حالة مخاض، وفي أزمة تحديد مسارات مستقبلية لم تُحسم بعد. وهو ما يُبطِّئ قدرتها على الدخول الفعّال في السياسة الدولية، بما فيها قضية فلسطين وقضايا الشرق الأوسط، لعدم توفر رؤية دولية جديدة ناضجة للصين في هذا الإطار.
تطور سياسات محتمل.. ولكن:
وعلى ذلك، فإن التطورات الهائلة التي شهدتها الصين اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً وتكنولوجياً، تسمح لها في المدى المنظور في فرض نفسها على البيئة الدولية؛ وبالتحوّل إلى سياسات أكثر فاعلية على المستوى الدولي، على الأقل في الدفاع عن شبكة مصالحها الواسعة التي نسجتها في السنوات الماضية؛ وفي ضوء المنافسة التي أصبحت مكشوفة بشكل أكبر مع الولايات المتحدة، وفي ضوء أنها أصبحت أقلّ حاجة عن ذي قبل للولايات المتحدة والغرب في عملية صعودها، وأصبحت أكثر قدرة على المناورة بما تُتيحه إمكاناتها المتصاعدة على الساحة الدولية.
وهذا يؤهلها للعب دور أكبر وأكثر فعالية تجاه فلسطين وقضايا الشرق الأوسط، غير أن ذلك يعتمد بشكل كبير على رغبة الصّين نفسها في مراجعة نظرية "الصعود السلمي"، وفي بناء رؤية جديدة للتعامل مع البيئة الدولية، وفي مدى استعجالها لفرض نظام دولي متعدد القطبية، مع استتباعاته السياسية والأمنية.
وبشكل عام، فإن عودة العالم إلى حالة "التدافع"، وتراجع الهيمنة العالمية الأمريكية، سيعطي فرصاً أفضل لدول العالم، بما فيها المنطقة العربية (وقضية فلسطين)، للاستفادة من الهوامش التي تتيحها عملية التدافع والتنافس الدولي. غير أنه في الوقت نفسه، لا ينبغي المراهنة كثيراً على الدور الصيني في نُصرة قضية فلسطين وشعوب المنطقة، لأن الصين ستظل في المدى المنظور محكومة بحساباتها المصلحية البراجماتية. وهو ما يستدعي أن تكون البلدان العربية (بما فيها القوى الفلسطينية الفاعلة) أكثر وحدة وقوة وتماسكاً (أو أكثر تنسيقاً على الأقل)، وأقدر على توظيف إمكاناتها الكبيرة في التأثير والضغط، وفي إدارة مصالحها على المستوى الدولي.