تراكم التجارب الإنسانية يساهم في القدرة على التنبؤ وقراءة المستقبل من دون أن تشعر، ومع ذلك تبقى هي في نهاية المطاف قراءات تحتمل الخطأ أو الصواب؛ فهذا المفكر هيغل سبق أن تنبأ بنهاية التاريخ في القرن التاسع عشر بقيام الدولة القومية البروسية، وجاء بعده ماركس ليعلن أن الشيوعية هي بداية التاريخ الحقيقي، وستتلاشى الرأسمالية، ولكن ها نحن اليوم نعيش في عصر يقول لنا إن التاريخ لا يمكن أن يتوقف ما دام علم الطبيعة الحديث لا يتوقف وبالتالي لا نهاية له؛ ولذا انهارت تلك الفرضيات، ومع هذا لا يمنع من أن ينجح بعضها، لا سيما وقد طُرح في القرن الماضي عدد من النظريات، ومنها آراء المفكرين هنتغتون وفوكوياما إزاء السياسة الأميركية، وترويجهما للنموذج الأميركي.
ليس غريباً أن تتضمن بعض النظريات شيئاً من الصحة، لكن الإشكالية تكمن في الإصرار على صحتها بالكامل. هذا أسلوب يتناقض مع مبدأ علم النظريات والنسبية ويدفع باتجاه القطيعة.
وهذا السياق، يقودنا للمشهد العربي الذي تنهشه الآيديولوجيا المتطرفة بصورها كافة المتمثلة بالتطرف الديني والفتنة الطائفية والسلطوية السياسية والتمييز العنصري. تجد أن منهجية التفكير لدى العقل العربي عندما تتجسد الحقيقة أمامه فإنه يتملص منها، مع أن نفيه لا يلغي وجودها؛ فالحقيقة هي معيار ذاتها. رفض القبول بحقيقة الأشياء يؤكد أن ثمة علة في جوف العقل العربي، وهي من شوائب موروثه الثقافي على الأرجح.
آلية التفكير الصحيحة والارتهان لمنطق سليم يتطلب معرفة تنويرية. يرى البعض أن المعضلة تتعلق في المقام الأول بنقد العقل العربي وتكوينه وبنيته على اعتبار أنه منتج لهذه الثقافة، والتي هي بطبيعة الحال تهيمن على وعي المجتمع، في حين نادى مفكرون باستيعاب الفارق المهول بين العرب والغرب من حيث المسافة التاريخية وكيفية استيعابها، وشددوا على أن خريطة الطريق لتلك الرؤية وردم الهوة الشاسعة لا بد أن تكون متزامنة مع منظومة تنوير فكري وتطوير تقني وإصلاح للخطاب الديني لتتسق مع التحولات المجتمعية، مدللين بذلك على مسار النهضة الأوروبية التي استطاعت أن تصل للنموذج الراهن بالتمرد على عقلية القرون الوسطى آنذاك.
نتساءل هنا، ما الذي يقف وراء ضَعف تواصلنا مع الغرب في العقود الماضية؛ ما ساهم في خفت توهج التبادل الثقافي والحوار الإنساني؟ جملة من الأحداث والمسببات التي أدت إلى نوع من التوجس أو حتى العزلة، بسبب الأحداث التاريخية أو حفاظاً على الهوية وكرامة الذات، خصوصاً بعدما أصبحت لغة القوة والسيطرة والهيمنة تسبح في فضاء تلك الفترة، علاوة على النظرة الدونية لليمين الغربي إزاء الحضارات والثقافات الأخرى.
ثمة عوامل ساهمت في تكريس هذا المناخ كالأجواء التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، والدخول في مرحلة الاستعمار، واستيلاء الحلفاء على البلدان، وسقوط الدولة العثمانية، وظهور الاتحاد السوفياتي كثورة مناهضة للغرب (الفكر الشيوعي مقابل الفكر الرأسمالي)، ومن ثم ظهور النظام العالمي الجديد الأحادي القطب بزعامة الولايات المتحدة واليوم نعيش أجواء تعدد القطبية بوجود روسيا والصين إلى جانب أميركا.
في الجانب الآخر، ما زال الإعلام الغربي يكرّس قضية الصراع الحضاري بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، كما أن أسماء إرهابية ومتطرفة كأسامة بن لادن والظواهري والبغدادي ما زال يُروج لها الإعلام الغربي وكأنها ممثلة للإسلام؛ مما يثير التباساً لدى الشعوب الغربية وبالتالي يعتقدون بأنها حرب بين الإسلام والغرب. الوسطية في الإسلام لا تقرّ تلك الطروحات العدائية مع الغرب، بل تنادي بمفاهيم التعايش والتسامح والحوار.
هنا نتساءل ماذا عن دور المستنيرين في العالمين الإسلامي والغربي؟ هم معنيون بالمطالبة والحث على التقارب والحوار والانفتاح واحترام الرأي الآخر وتكريس التلاقح الثقافي.
ومع ذلك، إن أردنا الحقيقة، الغرب اليوم هو من يملك الأدوات والقدرات للسيطرة والتأثير، ومن يجحد ذلك فهو لا ينتمي إلى عالم الواقع، بل إلى عالم الأحلام والنوستالجيا. المصالح هي لغة العالم اليوم، فلا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة، وأحسب أن العلاقات الدولية اليوم تستند إلى هذا المنطق. علينا أن نميز بين الشعوب وسياسات الحكومات؛ فالأخيرة تأثيرها محدود لأن فترتها محدودة، في حين أن الشعوب ليس بالضرورة أنها تتفق مع سياسات حكوماتها على الدوام.
خريطة الطريق تبدأ بالانعتاق من عقلية المؤامرة، وأن الغرب يستهدفنا أو يتربص بالإسلام؛ فالغرب لا يهمه إلا مصالحه، وعلينا أن نعامله بالمثل، مرتهنين إلى العقل والانفتاح ونسبية الأشياء والواقعية ونتخلص من عقلية الفوبيا والانغلاق وتعليق أخطائنا وضعفنا وخلافاتنا وتخلفنا على شماعة الغرب!
نحن أحوج من أي وقت مضى إلى تشكيل نسيج ثقافي إنساني متحرر من مفردات الإلغاء والإقصاء والتشكيك وخطابات التسييد. التواصل الحضاري ضروري ومُلح في وقتنا الراهن؛ ما يستدعي صياغة أفكار وآليات عبر لقاءات حوارية دائمة ومبادرات متواصلة، فالحضارات لا تتلاشى إذا ما تلاقحت. أما الخشية من فقدان الهوية والخوف من الغزو الثقافي أو القطيعة مع الآخر فهو ضعف فكري وهشاشة في تركيبة المجتمع.