أأحدثكم عن سمر التي فقد ابناء عمومتها الامل وابحروا في البحر منذ العدوان الأخير ولم يبقَ لهم أي أثر؟
أم أحدثكم عن سهيل الذي يتابع تفاصيل نقل المرضى والذي انهار خجلاً أمام عيون الأم بعد ان فارقت طفلتها الحياة قبل ان تصدر التحويلة لعلاجها على بُعد ساعات من غزة.
أم أحدثكم عن وائل في المطعم وهو يحمل شهادة الماجستير بعد ان تقطعت به السبل وها هو يناقشني في بحث الدكتوراة الذي يحلم بإنجازه؟
أم أحدثكم عن جمال المثقف الذي سبق الحداثة، يكتب ويتحدث عن العلمانية وعن الدبلوماسية الرقمية وسلاح العصر وها هو مهدد من السلطات الأمنية التي لا ترحب بالعقل ولا بالمنطق ولا بفكر يليق بالأنام.
أم أحدثكم عن غرفة نوم العرسان المُطلة على البحر، التي لم يتبقَ منها سوى هيكل جدران باهتة حتى شجرة عيد الميلاد في الزاوية فزينتها مكسرة ومنتشرة في ارجاء المكان، أما نعل العروس اللامع فهناك فردة لا زوج لها تجدونها تحت الرُكام، احلامٌ وتفاصيل مُبعثرة متروكة تحت الانقاض.
أم أحدثكم عن حسن أم عامر ام ماهر ام دنيا أم حازم او غازي او سمير او رهام او دينا؟ سأحدثكم عن الشابات والشباب، بالعامية "بردوا الروح” نعم شبابنا كثير "ملاح” الشباب في غزة هم من أعاد الزخم للقضية الفلسطينية على الساحات الدولية بصمودهم ومن خلال شاشات هواتفهم الذكية فها هم يخاطبون العالم ينقلون الحقيقة ويعملون باخلاص لتغطية تفاصيل الحكاية التي انتصرت بهمة هؤلاء الشباب الذين خاطبتُهمْ وأكدتُ لهم بكل فخر أنهم الماركة الفلسطينية الأرفع والأقدر على اختراق عقول وقلوب العالم، هم الترويسة الفلسطينية بلا حدود، هم الفكرة التي لا ولن تموت.
هذه هي غزة التي زرتها، تناقضاتها كثيرة إلا أن كل زاوية كل شارع كل بيت كل عائلة وكل رواية عبارة عن مدرسة في الوطنية والكرامة والحرية والأمل.
أحبك غزة، لا أبالغ ولا أجامل فأنتِ في مُخيلتي سان تروبيه الشرق أوسطية. هذه زيارتي الاولى منذ واحد وعشرين عام ولكنها حتماً لن تكون الاخيرة، شكرا على كل الحب والكرم والأمل، لم يسعفني الوقت للقاء جميع الأحبة، وتعجز كلماتي عن التعبير ويحتار قلمي بانتقاء ما يناسبها من مفردات، تتعثر قريحتي الادبية عند ذكرها، ها هي تتربع في قلبي، وتأبى ان تغادرني وتمدني بالصبر وبالطاقة بالايجابية، تحية لك يا غزة، يا جزء من فلسطين، الجزء القريب البعيد، السهل الممتنع، الأبدي الأثر…
د. دلال عريقات: استاذة الدبلوماسية والتخطيط الاستراتيجي، كلية الدراسات العليا، الجامعة العربية الامريكية.