انتصر الشعب الفلسطيني وقواه الحية على إسرائيل وجيشها الذي يوصف بأنه لا يقهر. وتحقق هذا الانتصار نظرًا لاتساع ميدان المعركة لتشمل كل فلسطين، والجمع ما بين أشكال المقاومة الشعبية والمسلّحة وتنوعها، وفي ظل موجة انتفاضية عارمة طال انتظارها، ووصل مداها إلى أركان الأرض الأربعة.
انتصر الفلسطيني على الإسرائيلي بما يحقق المقولة الشهيرة "الضعيف إذا لم يهزم ينتصر”، و”القوي إذا لم ينتصر يهزم”. ولا شك أن جيش الاحتلال أقوى بكثير من سرايا المقاومة عددًا وعدة، لا سيما أن ميدان المعركة صغير جدًا، في ظل كثافة سكانية عالية جدًا، ومن دون عمق إستراتيجي يمدّه بالسلاح ويعوضه عن الخسارة.
لم يكن هذا الانتصار العظيم عبر تحقيق الأهداف المباشرة التي حددتها المقاومة والمتعلقة بالقدس والأقصى وحي الشيخ جراح وإعادة الإعمار، فهي لم تتحقق، ولا يزال النضال جاريًا من أجل تحقيقها، وإنما من خلال أن العدوان لم يُحقق أيًا من أهدافه رغم أنها كانت متواضعة هذه المرة، واقتصرت على توجيه ضربة قوية للمقاومة، وكسر إرادتها على القتال، واستعادة الردع الإسرائيلي.
أزعم أنه تحقق انتصار من خلال الدلائل الآتية:
أولًا، سقوط نظرية الردع الإسرائيلية: بادرت المقاومة إلى إطلاق الصواريخ، واستمرت في إطلاقها حتى اللحظات الأخيرة، وتم التوصل إلى وقف إطلاق نار متبادل متزامن، وليس كما أرادت حكومة بنيامين نتنياهو أن توقف المقاومة إطلاق النار أولًا، وتلتزم بتقييد الحصول على السلاح وتطويره، وإطلاق سراح الجنود المأسورين. واعتمدت المقاومة سياسة "إن زدتم زدنا” و”إن عدتم عدنا”، وغطت الصواريخ كل مساحة فلسطين المحتلة، وكانت أكثر دقة وتطورًا وتدميرًا من الصواريخ التي استخدمت في المعارك السابقة، وذلك رغم استمرار الحصار، وتدمير الأنفاق على الحدود، وخسارة حلفاء مثل السودان.
لقد أدى استمرار إطلاق الصواريخ، التي وصلت إلى أكثر من 4000 صاروخ، وما خلّفته من أضرار مادية وبشرية إسرائيلية كبيرة وغير مسبوقة خلال 11 يومًا، (وصلت إلى أكثر ملياري دولار وفق تقديرات مهنية)، إلى اهتزاز نظرية الردع الإسرائيلية بقوة.
عجز جيش الاحتلال عن هزيمة المقاومة عبر سحقها، أو شل قدرتها على الاستمرار، أو كسر إرادتها، وامتنع عن اللجوء إلى الحرب البرية التي لا يمكن حسم المعركة العسكرية من دونها؛ نظرًا للثمن الذي يمكن أن تدفعه قوات الاحتلال إذا أقدمت عليها، ولم تحقق حكومة نتنياهو حتى ردع المقاومة، بل تحقق نوع من توازن الردع، وهذا أمر يُحدث تغيّرات مهمة وحسابات إستراتيجية ليس من طرفي المعركة فحسب، وإنما من كل القوى والمحاور الإقليمية والدولية، خصوصًا المحاور التي على عداء ويمكن أن تتحارب في المستقبل.
لقد تساءل أفيغدور ليبرمان، وزير الحرب السابق، بحق: ماذا لو دخلت إيران وحزب الله في حرب مع إسرائيل؟
ثانيًا، وعي الانتصار: قد ينتصر طرف ولا يملك الشجاعة والإرادة للشعور بالانتصار، وقد يحدث العكس. وقد يُهزم المنتصر لعدم قدرته على مواصلة انتصاره، وينتصر المهزوم لقدرته على تجاوز أسباب الهزيمة.
ما شاهدناه أن الشعب الفلسطيني شعر بأنه انتصر، واستعاد كرامته وثقته بنفسه، وأنه قادر على الصمود والانتصار، وتصرف على هذا الأساس، ومن لا يصدق فلينظر إلى الاحتفالات التي عمّت القدس وبقية الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل، التي شارك فيها ملايين الفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم وشملت أصدقاء القضية من الأحرار على امتداد العالم. وتكفي صورة الفلسطينيين الداخلين إلى الأقصى بعد إعلان وقف إطلاق النار وهم يلوّحون بإشارات النصر وغيرها في عيون جنود الاحتلال مباشرة، للدلالة على الشعور الطاغي بالانتصار، بينما يتجرّع الجنود الذل والعار.
فلم يشهد الكيان شعورًا بالنصر، بل ادعاء بالنصر، من نتنياهو ووزير حربه ورئيس الأركان، مستند إلى حجم الدمار والإبادة البشرية لعائلات بكاملها، وتدمير المنازل والأبراج والبنية التحتية، لم يصدقه معظم الإسرائيليين، بدليل توجيه الانتقادات الواسعة للحكومة والجيش لنتيجة الحرب، وما كشفته من نواقص وأخطاء عند جيش الاحتلال، إذ لم يكن لديه بنك أهداف مناسب، لدرجة عدم وجود أهداف للقصف، وعدم النجاح في اغتيال القيادات السياسية والعسكرية، وعدم تدمير البنية التحتية للمقاومة، وخصوصًا منصات الصواريخ.
ثالثًا، أين كنا وأين أصبحنا: أي مراقب موضوعي لما كانت عليه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني قبل الانتفاضة، وأين أصبحت، سيرى أن هناك تغيرًا إستراتيجيًا حدث، ليس فقط بسبب الصواريخ، بل جراء ثورة الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل وخارجه، بما يعيد للقضية ألقها ومكانتها في الإقليم والعالم، وبما يؤكد أنها قضية مركزية ولم يطويها النسيان، وأنها كما كانت دائمًا، وإن بتفاوت، عاملًا يؤثر بشدة على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم كله، لذلك شاهدنا كل هذا الاهتمام بوقف إطلاق النار، لدرجة أن الرئيس الأميركي جو بايدن الذي وضع القضية في آخر سلم اهتماماته أصبحت لأيام الشغل الشاغل له ولأركان إدارته، ووضعت في مكانة متقدمة على جدول الأعمال. ولعبت ردود الأفعال الشعبية الواسعة والصاخبة دورًا مهمًا في وقف العدوان.
واستعاد الشعب كرامته، وتجلّت في هذه المعركة وحدته وتمسكه بهويته الوطنية وحقوقه، وأن معركته رغم اختلاف الظروف والخصائص والأولويات لكل تجمع واحدة ضد كيان استعماري استيطاني عنصري إحلالي احتلالي. كما عادت القضية إلى طبيعتها كقضية تحرر وطني، وقضية عادلة ومتفوقة أخلاقيًا، ويحمل لواءها شعب جبار مصمم على الدفاع عنها والكفاح لتحقيقها مهما طال الزمن وقلت التضحيات.
ماذا بعد؟
ما حصل على أهميته مجرد معركة وانتصار عظيم في حرب طويلة، معركة على أهميتها التاريخية لم تحسم الصراع، ووقعت في بيئة عربية وإقليمية ودولية رسمية غير مناسبة، لذا لم تغير الواقع، وإنما فتحت الآفاق لتغييره. وهناك فرق نوعي في منتهى الأهمية بين اعتبار أن ما جرى فتح الآفاق للتغيير والتصرف بأن التغيير قد حدث فعلًا، فلا يزال الواقع بكل بنيته وتعقيداته ومخاطره موجودًا، والجديد الذي يجب البناء عليه بأنه واقعًا جديدًا أخذ يطل برأسه، ولم يُطح بالقديم، ولا يملك البنى والإمكانيات والأطر ليفعل ذلك فورًا، بل عليه أن يخوض نضالًا متعدد الجبهات حتى يمكن إحداث التغيير المطلوب والممكن.
ومن أجل القدرة على التقييم المناسب، لا بد من ملاحظة أن الانتفاضة التي انطلقت في القدس للدلالة على مكانتها وتأثيرها وانتشرت في بقية فلسطين طابعها الأبرز العفوية من دون تأطير وتنظيم، وبلا قيادة. والعفوية مهمة بحد ذاتها كونها تمثل مرحلة على طريق الوعي والتنظيم الذي يعدّ أرقى مراحل الوعي، وإعلانًا صارخًا برفض ما هو قائم، والاستعداد لتغييره، وهي مهمة أكثر بقدر ما تكون وتُفهم على أنها مرحلة على طريق طويل، ما يعني ضرورة الاستمرارية التي لن تحدث من دون تأطير وتنظيم، اللذين وحدهما يوفران مستلزمات الاستمرارية، وصولًا إلى الانتصار الكبير.
والتنظيم ليس حتمًا، ولا بالضرورة، أن يأخذ أشكال وأدوات وخطط وأساليب وسياسات العمل والقيادات السابقة حتى يتم رفضه من الشباب الثائر المندفع، ففلسطين في عصر جديد، والأجيال الشابة بنت عصرها ومنفصلة بشكل أو بآخر عن التجارب السابقة رغم كل ما قامت ولم تقم به، ولكنها مطالبة بالبناء على ما سبق بحيث تلفظ كل ما هو سيئ وتحافظ على كل ما هو جيد، ضمن فهم أن القيادات القديمة والقائمة لم تحقق الأهداف الوطنية والتحررية والديمقراطية، وهذا يعود إلى أخطاء وخطايا في النهج والسياسات وأشكال وأساليب العمل والنضال يجب التخلص منها.
ما نراه اليوم بعد أن وضعت الحرب أوزارها يشير إلى أن ما حدث على أهميته البالغة لم يخلق واقعًا جديدًا نوعيًا لا يمكن الارتداد عليه، بل هناك مخاطر الارتداد، وهي مدعومة من شبكة علاقات ومصالح وقوى ومراكز قانونية وسياسية واقتصادية وأمنية وثقافية محلية وخارجية، ويدعمها الاحتلال الذي سيعمل على إجهاض ما حدث، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه.
إن نجاح الثورة أو إجهاضها بحاجة إلى تشخيص صحيح للواقع الذي نشأ، وعلاج يناسب هذا الواقع. فمن السهل القول إن ما حصل يُجُبّ كل ما قبله، ولكن إذا تم التصرف على هذا الأساس من دون وضع سياسات وخطط مناسبة قادرة على التغيير بالتدريج، إلى حين الوصول للحظة التغيير النوعي، سيكون هناك اصطدام بالصخور وحقائق الواقع العنيدة.
السلطة فقدت مصادر الشرعية
كانت السلطة، بما تشمله من وزارات وأجهزة أمنية، أكبر الخاسرين مما جرى، لأنها لم تكن بمستوى التحدي، وفقدت الشرعية، وباتت الآن من دون شرعيات، لا شرعية صندوق الاقتراع بعد تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، ولا شرعية المقاومة التي لم تبادر إلى المشاركة في تنظيمها وقيادتها، واضطرت للانخراط بها، بدليل أنها عقدت اجتماعًا يتيمًا شكل لجنة لدراسة الخيارات، ولم تنه اللجنة عملها حتى الآن، لدرجة أن الرئيس لم يخطب حتى كتابة هذه السطور، ليعلق على وقف العدوان، وهذا أدى إلى غياب دوره ودور السلطة حيث كانت الانتفاضة والمقاومة هي اللاعب الرئيسي.
ولا تملك القيادة والسلطة شرعية الوفاق الوطني في ظل وقف الحوار وعدم تطبيق الاتفاقات وتأجيل الانتخابات بقرار انفرادي، ولا شرعية الإنجاز كما يظهر في الواقع السيئ، ولكن السلطة رغم كل ما سبق مرشحة للبقاء، لأن المعارضة لا تطرح – حتى الآن – بديلًا متكاملًا وعمليًا، لذا، فالبديل عن السلطة لم يولد بعد، ولأن أطرافًا مختلفة تسارع إلى تركيب أرجل اصطناعية لها.
لا يمكن حل مسألة القيادة والسلطة وإيجاد البديل عبر الكلام والشعارات عن حل السلطة أو إسقاطها من دون توفر البديل، ومن دون وجود من هو قادر على الإسقاط. أما البديل الممكن فيمكن أن يكون في بناء سلطة موازية خطوة خطوة، وصولًا إلى ازدواجية السلطة حتى تحسم السلطة الجديدة الأمر لصالحها، أو في إعادة تشكيل السلطة، بمعنى تغييرها، من خلال شراكة ووحدة وطنية تبدو بعيدة الآن، أو من خلال الاكتفاء بإصلاح السلطة وتجميلها.
وإذا أخذنا أمرًا آخر، وهو الانتخابات، فهناك من يقول لا انتخابات تحت الاحتلال، ومن يرد عليه بحق بأنه ما دامت هناك سلطة تحت الاحتلال فيجب أن تحكم حكمًا رشيدًا، ولا يمكن أن يتم ذلك من دون انتخابات.
وهناك من يطرح إجراء انتخابات للمجلس الوطني يشارك فيها كل التجمعات، بما فيها شعبنا في الداخل، لكي تكون المدخل لإعادة بناء منظمة التحرير، وهذا الشعار جميل وجذاب، ولكن لا يمكن تحقيقه على المدى المنظور. والمعيقات لا تتعلق بعدم وجود القدرة الفنية، بل بعدم وجود الإمكانية الموضوعية والذاتية والنهوض والوعي والنضج والإرادة السياسية والتوقيت المناسب، ومخاطر ذلك الكبرى.
فإذا لم ننجح في عقد انتخابات للمجلس التشريعي (وهي المرحلة الأولى لانتخابات المجلس الوطني) للسلطة المعترف بها خشية من نتائجها، فكيف سننجح في إجراء انتخابات لمجلس وطني تعارضه أطراف عديدة محلية، إضافة إلى معارضة إسرائيل صاحبة السيادة، وأطراف عربية ودولية وازنة، ومن دون عمق إقليمي ودولي يدعم ذلك.
فهذه الأطراف آخر ما يهمها نهوض الشعب والمارد الفلسطيني ووحدته في ظل الوضع العربي البائس. والنهوض الفلسطيني لم يصل إلى هذا الحد الآن حتى يفرض نفسه، ويمكن أن نصل إليه، ولكن لم يحصل حتى الآن، والإقدام على خطوات قبل أوانها يؤدي إلى عكس المراد والمرغوب منها.