على امتداد عقود من الزمان تميز المورد البشري في دول الخليج وبقية دول العالم بجودة ورصانة العنصر البشري، وكان السند لذلك مؤسسات ونظاما تعليميا على مختلف المستويات يساهم برفد السوق المحلي والإقليمي بكفاءات في مختلف المجالات ميزت الأردن عما كانت تصدره دول أخرى مصدرة للعمالة، ولعل هذا يفسر أهمية حوالات العاملين في الاقتصاد الوطني والتفكير الذي ساد لفترة طويلة بأن نظامنا التعليمي في مخرجاته يمتد الى السوق الإقليمي.
ولكن هذا الواقع تغير في العقد الأخير، وتراجعت نوعية التعليم على عدة مستويات سواء الجامعي او ما قبل الجامعي، وأصبح لدينا العديد من الجامعات التي لم تساهم للأسف بتحسين النوعية بل في زيادة الأعداد فقط، وحدث ما يشبه الفراق بين ما يدرس الطالب من مساقات وبين احتياجات سوق العمل، وأصبح الآلاف من خريجي الجامعات يسبحون فيما نصفه بالتخصصات الراكدة، أي تلك التي لا يوجد عليها طلب في السوق، وحتى التخصصات التي عليها طلب في السوق، فإن نوعية الخريجين وفقا لأصحاب العمل لا تعتبر مؤهلة لشغل تلك الوظائف. وهذه الديناميكية جعلت نوعية التعليم مسألة ثانوية.
نتساءل كثيرا كيف يمكن اصلاح الأوضاع وما المخرج من أزمة البطالة؟ الجواب يكمن في العودة الى جذور المشكلة، فالاقتصاد يولد تقريبا حوالي خمسين ألف فرصة عمل في مختلف القطاعات، نسبة قليلة منها تذهب الى الأردنيين، وقلة من الخريجين تناسب الوظائف المتخصصة المطلوبة، فما الذي سيحصل في ظل تراجع مستويات النمو هذا العام.
ليس هذا جلدا للذات بقدر ما هي ضرورة الإقرار بأن الوضع الحالي في ظل التركيبة السائدة سيؤدي الى مفاقمة المشكلة التي نعاني منها ومن المرجح ان يكون هناك تبعات اجتماعية وسياسية ستترتب على ذلك.
وما نحتاجه هو مراجعة عميقة لما نفعله والإقرار بأننا بحاجة الى قرارات جراحية ستثير الكثير من اللغط حاليا، ولكن لا بد منها، والبداية تكون بإجابة أسئلة من نوع: هل نحن بحاجة الى هذا العدد من الجامعات الخاصة والعامة؟ هل يمكننا الاستمرار بسياسات القبول والاستثناءات؟ وهل يجب ان يكون هناك تدخل جراحي في تحديد التخصصات بشكل اجباري؟ وكيف يمكن تحسين نوعية ما يقدم؟ إذ لم يعد مقبولا الاستمرار بتحليل الظاهرة دون إجراءات على ارض الواقع.
لا يمكن انكار ان هناك عددا من المؤسسات التربوية حاليا التي تقوم بأدوار إيجابية وتقدم التعليم والتدريب على مستوى منافس، ولا يعاني خريجو تلك المؤسسات والجامعات من بطالة مرتفعة لأنها تركز على المهارات والقدرة على التكيف مع المستجدات، لكن عددها للأسف قليل.
يتغير العالم وأساليب التدريس، ويرافق ذلك تغيير عميق في سوق العمل المستقبلي، والفجوة عندنا في اتساع ما بين التعليم التقليدي السائد، وما يقدم من مساقات قد تحمل أسماء رنانة مثل "الذكاء الصناعي” أو "العمل الآلي” ولكن المضمون والبرامج غاية في التواضع.
كلنا يعرف ما الذي يجب عمله، ويتطلب هذا نظرة بعيدة المدى تستوجب بناء توافق مجتمعي عليها، بغير ذلك سيبقى الموضوع الأكثر تداولا هو التعليم وسوق العمل، ولكن القليل يتخذ لإصلاح منظومة بات المجتمع بأسره يحس بآثارها وتداعياتها السلبية ولا تجد من يعلق الجرس، فالقصة ليست تحسين إدارة القائم، بل مفارقته تماما بما يعزز من المهارات والتمكين، والتكيف مع تحديات المستقبل بدلا من التمسك بالوضع القائم الذي اصبح غير قابل للاستمرار.