إنّ خطوة التفرّغ الإبداعيّ خطوة إيجابيّة في الطّريق إلى إنصاف أهل الثّقافة والإبداع. وما حرص وزارة الثقافة على تنفيذ هذا النّظام من دون العبثِ به أو توقيفه أو إلغائه، برغم التغيير الصّاروخيّ للوزراء منذ إقراره (ستة حتى الآن)، إلا دليل على التزام الوزارة بالهمّ الثقافيّ وحدبها على الإنجاز الجادّ، وهما جوهر وجودها من دون مِراء.
غير أنّ النوايا شيء والممارسة شيء آخر. فإذا كانت فلسفة التّفرّغ تقوم على مكافأة المبدعة والمبدع على مسيرةٍ إبداعيّةٍ ثرّةٍ بالمعنى وغنيّةٍ بالقيمة (وذاك بندٌ أوّليٌّ للفوز)، اشترطت من أجلها سنّاً بعينها وعدداً من الأعمال لا ينقص، فكيف تُسوّغ الوزارة التي هي –بالافتراض والتمنّي– حارسةُ بقائنا المعنويّ والماديّ أن تفسّر البند "و" (من المادة الرابعة في نظام التفرّغ الإبداعيّ) بالسّيف القاطع الذي يجعل من عضويّة لجنةٍ مثلاً أو مجلس عملاً منتظماً يجب على المتفرّغَيْن الاستقالة منها؟ وهل المشاركةُ في الشّأن الثقافيّ والانغماس فيه يتنافى مع فلسفة التفرّغ؟ أم أنّ القروش القليلة التي يحصِّلها المتفرغان هي بيتُ القصيد؟ وهل نحن بإزاء نظام مكافأةٍ أم نظام عقاب؟ وكيف تكون المشاركة في الشّأن الثقافيّ عملاً منافياً للشّأن الثقافيّ؟ بعبارةٍ أخرى: كيف نطلب من أهل الثقافة أن لا يكونوا من أهل الثقافة وأن ينعزلوا ويعتزلوا؟ وهل ينبغي على المتفرِّغَيْن أن يكُفّا عن النّشر في الصّحف والمجلات والظّهور في وسائل الإعلام لأنهما يتقاضيان بعض المكافآت؟ وهل يتساوى في الاصطلاح مفهوم "العمل الوظيفي المنتظم" مع مفهوم "العمل غير المتفرِّغ" (free lance)؟
لا شكّ أن جوهر البند (و) ("أن يقدم (المتقدم) تعهداً خطيّاً بعدم مزاولة أي عمل وظيفي منتظم يتقاضى لقاءه أجراً، طيلة (والصحيح طوال) فترة تفرغه") هو الحصول على تفرّغٍ من العمل الوظيفيّ المنتظم (أي الذي بدوامٍ كامل)، بل من العمل الوظيفي الحكوميّ تحديداً الذي سيحفظ للمتفرِّغَيْن حقوقهما ويحتسب لهما سنة التفرُّغ سنة عملٍ، لأنه ليس للوزارة من سلطةٍ على القطاع الخاص الذي ليس مجبوراً أن يُفرِّغ إلا طوعياً، وسيخسر المتفرغان منه سنة من مكافأة نهاية العمل. فهل من العدل أن لا يتساوى موظف حكومة مع موظف قطاع خاص؟
وباليد الأخرى تأخذ الوزارة من المبدعَيْن المتفرِّغَيْن عندما تحتكرُ المشروع المُنجَز لمدة عام! ما هذا؟ أمافيا في ثوبِ قديس؟ أم ذئبٌ في ثوب راعٍ؟ كيف يجوز أن يكون التفرُّغ لدعمنا ثم يأتي العقد ليحتكر أعمالنا؟ أي دعمٍ هذا؟ وما هي الفائدة التي تجنيها الوزارة والمتفرِّغان من حبس المشروعات المنجزة في المخازن؟ ونبئينا يا وزارة عن مغزى مثل هذه الأفكار الجهنميَّة التي ستشكِّكنا بمعنى أنك سندٌ وبناء؟
دعونا لا نفقد الأمل...