«معارك من أجل التاريخ» للوسيان فيفر: تاريخ البشر

«معارك من أجل التاريخ» للوسيان فيفر: تاريخ البشر
أخبار البلد -  

ذات يوم عندما أعلم فرنان بروديل، الذي كان طالباً تخرج شاباً في ذلك الحين، أستاذه لوسيان فيفر بأنه يزمع كتابة أطروحة في التاريخ حول «فيليب الثاني والعالم المتوسطي»، نبهه فيفر الى أن من الأفضل قلب العنوان بحيث تعطى الأولوية للمكان (البحر الأبيض المتوسط) على السياسة (فيليب الثاني وزمن حكمه). ولعل فيفر اختصر يومها بهذا الاقتراح الذي قد يبدو شكلياً للوهلة الأولى، كل ما خاض وسيخوض من أجله معركة الكتابة التاريخية وحده، أو ضمن إطار مدرسة وتيار «الحوليات» اللذين أسهم في تأسيسهما مع مارك بلوك، وسيكون بروديل نفسه لاحقاً، وريثهما الأكبر بعدما كان رفيقهما. ولئن كان اسم فيفر قد ارتبط على الدوام باسم بلوك، فإنه وبعد رحيل هذا الأخير على يد النازيين في معسكر اعتقال خلال الحرب العالمية الثانية، وحتى رحيله هو بعد ذلك بأكثر من عقد ونصف عقد من السنين، سيواصل الدفاع حتى النهاية عن ذلك الاختيار التاريخي الذي قلب، في العالم كله، مفاهيم كتابة التاريخ والتعامل معه. وهو سيلخص كل معركة في هذا السياق في كتابه «معارك من أجل التاريخ» الذي لم يصدر على أية حال إلا بعد رحيله في العام 1956.

 

 

> والحقيقة أنه إذا كان لمفكرنا العربي ابن خلدون من شبيه في الغرب، من أبناء قرننا العشرين هذا، فإن هذا العالم لن يكون لوسيان فيفر، الفرنسي الذي يعتبر بحق، الأب الشرعي لـ «التاريخ الجديد» في فرنسا، وربما في أوروبا كلها أيضاً، وذلك منذ بدايات القرن العشرين حين وضع، وكان في الثالثة والثلاثين من عمره، أطروحته حول «فيليب الثاني ومقاطعة فرانش - كونتي». هذه الأطروحة التي لا تزال تُقرأ حتى اليوم وكأنها كتبت في الأمس القريب، لجدتها وجدة تعاملها مع القضية التاريخية. ولئن كان علم التاريخ، قبل ابن خلدون - في «المقدمة» على أي حال، أكثر مما في «كتاب العبر» - عولج دائماً بوصفه حكايات سياسة ومعارك وتعاقب ملوك، ودسائس قصور، فإنه كان له المصير نفسه في المدارس التاريخية الأوروبية، بصورة عامة، قبل أن يحل القرن العشرون، ويتبدل تبدلاً جذرياً على يد مؤرخين من أمثال لوسيان فيفر. فهنا صار التاريخ علماً يستوعب العلوم الأخرى: صار المجتمع جزءاً أساسياً مكوناً له، فضم التاريخ علوم الاجتماع والجغرافيا، وتاريخ الأديان وتاريخ الذهنيات وتطور التقنيات والصناعة. التاريخ صار مصنوعاً من هذا كله. وكأننا هنا نتحدث - كما سيدرك القارئ المطلع - عما يسمى في فرنسا بـ «مدرسة الحوليات»، والأمر ليس صدفة، فلوسيان فيفر هو الذي أسس تلك «المدرسة» مع زميله ارنست بلوك، وكانت - ولا تزال - مجلة «الحوليات» ناطقة باسمها، ومن أبرز أعلامها بعد فيفر وبلوك، فرنان بروديل، ولي روا لادوري وبيار شينو، وجاك ليغوف، بين آخرين.

 

 

> في «معارك من أجل التاريخ» ووفق ما يخبرنا جاك ليغوف، أحد كبار ورثة فيفر، في كتاب جماعي عنوانه «التاريخ الجديد» يمكننا أن نجد المبادئ الأولى لذلك التاريخ الذي كان همه الأول أن ينتفض على الكتابات التاريخية السائدة، وذلك في مقالات منهجية عديدة تحدثت بخاصة عن المعارك التي خاضها فيفر ورفاقه في «الحوليات» وحتى خارج إطار هذه المؤسسة الفكرية، ضد التاريخ السياسي والديبلوماسي والتاريخ - اللوحة والتاريخ المبسط والتبسيطي، والتاريخ الفلسفي الذي يسميه فيفر «ما - يشبه - التاريخ»، وهو المعتمد عادة على «سرد الأحداث» من دون التوقف عندها، ومن دون إثارة الإشكاليات «مكتفياً بالانغماس في اجترار النصوص». في كتاب فيفر، نجدنا إذاً، في خضمّ معارك من أجل ما يسميه ليغوف «تاريخاً موجهاً» ويعني بذلك، تاريخاً مكتوباً بالاعتماد على التحقيقات الجماعية، ما يمثل مستقبل التاريخ نفسه. ويشرح لنا فيفر كيف أن «الحوليات»، بوصفها منبر تلك المعارك الأساسي، كانت قدوة في نشرها بحوثاً جماعية حول أمور مثل المسح العقاري، وتقسيمات الأراضي الزراعية، ويطور تقنيات الزراعة وانعكاس كل ذلك على حياة الناس وحياة النبلاء وغير ذلك. انطلاقاً من هنا إذا، راح التاريخ يتطلع الى العلوم المجاورة «مع الأمل في إيجاد حوارات بين إخوان يجهل بعضهم بعضاً» ولكن على رغم أن أولئك «الإخوان» لم يعبأوا أول الأمر بهذا الأمل والدنو يقوم به علم التاريخ الجديد تجاههم، ظلت «الحوليات» مثابرة على مسعاها. لقد أخفقت الألسنية في الامتحان، وتراجع علم النفس والفلسفة وتاريخ الفنون والعلوم عن خوض المغامرة، ومع ذلك فإن مسعى «الحوليات» وفق ما يفيدنا لوسيان فيفر خلال حديثه عن «المعارك» استفاد بعيد الحرب العالمية الثانية، من تأسيس القسم السادس للمدرسة العليا للعلوم التطبيقية، وكذلك من التجديد الذي حصل داخل «الحوليات» نفسها. ويعتبر هذا الحدث الأخير أساسياً، كما يفيدنا ليغوف، بالنسبة الى التاريخ الجديد الذي أصبح منذ ذلك الحين منتشراً عبر التدريس والنقاش العام، الى جانب اندماج اختصاصات أخرى فيه ليتحول الى مدرسة قائمة في ذاتها.

 

 

> منذ ذلك الحيــــن إذاً، وكما يقــول فيفر وينقل عنه جاك ليغوف، صارت المكانة الأولى لتاريخ البشر. فبالنسبة إلى فيفر كان التاريخ المكتـــوب مجرد تاريخ تاريخي، يهتم بالأحداث والطرائف والتقلبات الكبــــرى. أما التاريخ الحقيقي بالنسبة إليه، وكما سيشرح لاحقاً في كتب أساسيـــة له مثل «ظهور الكتاب» (1954) و «معارك من أجـــل التاريخ» (صدر في العام 1957 بعد رحيل مؤلفه بعام)، فهـــو تاريخ البشر الذي تدخل فيه عناصر العلوم الاجتماعية، حيث إن «التاريخ لا يمكـــن أبداً فصله عن الإطارات الاجتماعية والاقتصادية، التي يتجذر فيــها بالضـــرورة». ومــــن هذه العناصر الجغرافيا، التي يتوسع فــــي تبيـــان علاقتها بالتاريخ في كتابه «الأرض وتطور البشرية، مدخل جغرافي إلى التاريخ» (1922)، والتطلعات الدينية وظهورها كجزء من التفكير البشري بخاصة أيام عصر النهضة وأنسنـــة الإنسان، كما يشرح في كتابه «مصير: مارتن لوثر» (1928) وخاصته في «مشكلة اللاإيمان في القرن السادس عشر» (1942).

 

 

> باختصار كان لوسيان فيفر، عبر عمله الشخصي، كما عبر «التيار» الذي ساهم مساهمة أساسية في إنشائه (تيار «الحوليات» أو «التاريخ الجديد»، كما يطلق عليه في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية)، يسعى لأن يدمج في علم التاريخ مجمل إنتاجات العناصر الدراسية الأخرى، حيث إن التاريخ، يمكن أن يكون، بل من المحتم له أن يكــون، في رأي لوسيان فيفر، مرتبطاً بتطور التقنية وعلم الاجتماع وعلم الأعـــراق، وتطور العلوم اللغوية، وبقية العلوم الاجتماعية، تكونه ويكونهـــا فــي الوقت نفسه. ومن هنا يعتبر فيفر، كما أشرنا، مؤسس أول مدرسة علمية تاريخية ظهرت في القرن العشرين، وكان مركز انبعاثها القسم الرابع في «مدرسة الدراسات العليا» الذي منه أيضاً انبثقت مجلة «حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي» التي تأسست في العام 1929، وأعطت التيار كله اسمه المتعارف عليه.

 

 

> ولد لوسيان فيفر العام 1878 في مدينة نانسي، في الشرق الفرنسي، وتلقى دراسة ابتدائية وثانوية عادية قبل أن ينال ديبلوم التخرج في مادة التاريخ ويصبح أستاذاً لهذه المادة. أما الجديد في مساره، فلم يأت إلا في شكل لاحق حين وضع أطروحة الدكتوراه التي أشرنا إليها، في العام 1911، وقاده نجاح تلك «المغامرة الفكرية» - على حد وصف جاك ليغوف لها - إلى أن ينخرط في سلك التعليم العالي في كلية الآداب بمدينة ديجون، وانتقل بعدها ليدرس في ستراسبورغ بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى. وهي المرحلة التي تركز فيها الجزء الأساسي من عمله على التنديد بالكتابة التاريخية الفرنسية الجامدة (كما يفعل ابن خلدون، تماماً، حين ينتقد المدارس التي سبقته في «المقدمة»).

 

 

> في كتبه الأخيرة، انكبّ لوسيان فيفر، خلال السنوات التي سبقت رحيله عن عالمنا يوم 26 أيلول 1956، على تفسير أساليبه التاريخية والتركيز على ارتباطها بالمجتمع والإنسان. أما نشاطه وسمعته كعالم استثنائي فدفعا إلى انتخابه عضواً في «أكاديمية العلوم الأخلاقية والاجتماعية» في العام 1949، مما جعله يلعب دوراً أساسياً في إنشاء المركز القومي للبحث العلمي، أحد أهم مراكز الدراسات العلمية في فرنسا.

 

 

 
 
شريط الأخبار وائل جسار وسيرين عبد النور بالأردن والتذكرة تصل إلى 400 دينار وفيات الثلاثاء 1-10-2024 الزرقاء تفقد أحد رجالاتها .. النائب الاسبق (محمد طه ارسلان) في ذمة الله ترقب لحكم الاستئناف بحق نائب متهم بالرشوة بعد التاج الاخباري .. رجل الأعمال طارق الحسن يخسر قضيته أمام “صوت عمان” في قضية وثيقة مصرف الشمال مقتل نجل منير المقدح قائد كتائب شهداء الأقصى بغارة إسرائيلية على مخيم عين الحلوة بلبنان( فيديو) استهداف قاعدة فكتوريا العسكرية في مطار بغداد بالصواريخ هطول مطري شمالي ووسط المملكة اليوم.. والأرصاد تحذر من خطر الانزلاق انفجارات دمشق... اغتيال إسرائيلي يطال صحافية ويوقع شهداء وجرحى «المركزي»: تعليمات خاصة لتعزيز إدارة مخاطر السيولة لدى البنوك فرنسا ترسل سفينة عسكرية إلى سواحل لبنان احترازيا في حال اضطرت لإجلاء رعاياها الاتحاد الأردني لشركات التأمين يهنئ البنك المركزي الأردني بفوزه بجائزة الملك عبدالله الثاني للتميز عن فئة الأداء الحكومي والشفافية لعام 2024 فيديو || بدء التوغل البري في لبنان... قصف غير مسبوق بالمدفعية والدبابات على جنوب لبنان مع تمركز 100 آلية عسكرية على حدوده إعلان تجنيد للذكور والإناث صادر عن مديرية الأمن العام المستشفى الميداني الأردني غزة /79 يستقبل 16 ألف مراجع الخارجية: لا إصابات بين الأردنيين جراء الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان الحكومة تقرر تخفيض أسعار البنزين 90 و95 والديزل لشهر تشرين الأول المقبل وفاة احد المصابين بحادثة اطلاق النار داخل المصنع بالعقبة الخبير الشوبكي يجيب.. لماذا تتراجع أسعار النفط عالمياً رغم العدوان الصهيوني في المنطقة؟ حملة للتبرع بالدم في مستشفى الكندي