بعد أن هدأت العاصفة التي أطلقها السلفيون في الزرقاء الجمعة الماضية، وأدلى الكثيرون بدلوهم في ظاهرة فاجأت المجتمع الأردني، لكنها بالتأكيد لم تفاجئ الجهات الأمنية والرسمية في الدولة، من الممكن أن نتحدث الآن بعقل بارد يغيب فعلا عن مفاصل العمل السياسي، الذي يتسم بالانفعال والنزق أحيانا.
كان يمكن للحكومة المثقلة بهموم التظاهرات المطالبة بالإصلاح، أن تستغني ولو مؤقتا عن أزمة في الشارع مع القوى السلفية الجهادية، التي تبين أنها ليست بسيطة أو سهلة في المجتمع، لو أنها -أي الحكومة- تعاملت بحكمة وبعد نظر مع القوى السياسية الديمقراطية والمعارضة ومع جماعة الإخوان المسلمين تحديدا، التي كانت دوما حاضنة لاستقرار الدولة ومؤسسة أصلا لاحتواء التطرف والتشدد وقادرة على حماية الأردن من "الغلو" الديني.
وبعد المشهد الذي احتفلت به الفضائيات والصحف في شوارع مدينة الزرقاء، يمكن القول ابتداء إن الانسداد السياسي والإصلاحي، والحركة البطيئة للحكومة في كل شيء، يصنع في المحصلة مشاهد مماثلة، وإن لدى الحكومة التي سبق لها أن قمعت اعتصامات سلمية مسيسة وبرامجية الآن خصما أو عدوا جديدا في الشارع.
هذا الخصم مناسب جدا لإعادة إنتاج التشدد الأمني خوفا من الانفلات، في خدمة سيقدمها السلفيون الذين ظهروا في شوارع الزرقاء مجانا لخصوم الإصلاح والتغيير في البنية الأردنية. وقد بدا واضحا أن الرئيس معروف البخيت يسعى لتوظيف المشهد سياسيا، وهو يبشر الجميع بأن سياسة القبضة الخشنة ستواجه من يروّعون المجتمع باسم السلفية التي خرجت بالمقابل لأسباب غامضة من معزلها وبدأت تستعد للمشاركة في الجهد السياسي بالشوارع، مع سؤال إجابته معلقة في رقبة الحكومة وأجهزتها: لماذا الآن بالذات؟!
حتى الآن لا أحد يعرف بصورة محددة لماذا قرر السلفيون تجريب حظهم في الحراك السياسي وتنظيم الاعتصامات، أو لماذا ظهروا بمظهر الخشونة في الصور التي التقطت لهم في اعتصام يفترض أنه سلمي، وظهر فيه السلفيون يحملون السكاكين وإن كانوا قد زعموا بأنهم دافعوا عن أنفسهم من بلطجية الحكومة الذين أشبعوهم رشقا بالحجارة.
لا توجد نظرية سياسية متماسكة تقدر الاعتبارات التي حركت السلفية الجهادية ودفعتها لاستعراضات سياسية على طريقة الأحزاب الشرعية مع أنها لا تعترف أصلا بالنظام وتشريعاته. لكن ما يتسرب من منظري وقادة الجماعة يشير إلى ذرائع محددة يستخدمها السلفيون لتبرير الخروج سياسيا، أبرزها سلسلة طويلة من الإهانات والمعاملة القاسية عند الاستجواب وداخل السجون، وحرمانهم من زيارات السجن العائلية، ومنع دمج أحكامهم ومطاردة حتى التبرعات التي يرسلها البعض لأطفالهم وزوجاتهم.
الحكومة محتاجة جدا لخصم من هذا الطراز حتى تبطئ أكثر عملية الإصلاح، وتبرر منع وقمع الحراك السياسي، رغم أنها غضت الطرف تماما عن ظاهرة البلطجية الذين عاثوا في الاعتصامات فسادا في أكثر من مناسبة.
وسط هذه التقاطعات والتناقضات ظهر السلفيون الجهاديون في الشوارع مستغلين بوضوح غياب العمق والحكمة عن سياسة الحكومة في التعاطي مع المعارضة، وحركة الإخوان المسلمين تحديدا. وظهروا ليبرهنوا من دون قصد طبعا المقولة المعروفة: "من لا صوت له في الصندوق سيصوت في الشارع".
لم تركب عجلة الإصلاح على سكة العمل السياسي حتى الآن، ولسنا بحاجة إلى اعتصام بالسيوف حتى ينقض أعداء الإصلاح على ما تم إنجازه، لأنه لا يرى حتى بالعدسة المكبرة. والمبشرون بالقبضة الأمنية الخشنة، لم يكن حديثهم موجها فقط إلى القوى السلفية، بل إلى كل القوى التي تؤمن إيمانا حقيقيا بأن لا حل لمشاكل البلاد إلا بالتغيير والإصلاح، وهذه رسالة يجب أن تفهمها القوى العاقلة وتعمل على تجاوز تداعياتها، بالحكمة القائلة إنه لا حل لمشاكل الديمقراطية إلا بمزيد من الديمقراطية.