من ينكر أن لدينا فساد أو يقلل من أهميته أعمى أو متعام عن حقيقة ملموسة، وبالمقابل فان الهجمة العاتية على الفساد في كل المحافل والصالونات والمنابر تجتاح في طريقها كل من يحاول أن يرفع شعار سيادة القانون ومبادىء الانصاف والعدالة، وحين كتبت في الاسبوع الماضي أن هرم العدالة الديمقراطية في البلد مقلوب بحيث أصبح (كل مسؤول فاسد حتى يثبت هو براءاته) أتصل بي من يتهمني بمحاولة الحد من التوجه نحو محاربة الفساد !! بل أن هناك من أصر وأكد أن كل من تسلموا مسؤولية في الصف الاول من الادارة الحكومية فاسدون بشكل أو بآخر.
وبازاء هذه العاصفة فان أول النتائج أن غالبية المسؤولين في الدوائر الرسمية في الصف الثاني يتجنبون اتخاذ القرار ويرفضون بتاتا أي اجتهاد في تطبيق الانظمة بما يخدم الادارة ويسهل أمور المواطنين خشية تفسيره على أنه فساد إداري يخفي وراءه مصلحة مباشرة وكلهم تقريبا يلقون الكرة في ملعب المسؤول الاعلى لاتخاذ القرار والتوجيه المناسب وما عليهم الا تنفيذ القرار القادم من مكتب الوزير أو الامين العام بهدف أخلاء طرفهم من أي مسؤولية أو شبهة.
ومن جانب آخر فان ما يفكر فيه كثيرون أنه وفي ظل هذا الجو المشحون فان الحكمة تقتضي أن يتجنب الشرفاء تولي المسؤوليات العامة والاكتفاء بالمراقبة والتأمل الى أن تنقشع هذه العاصفة.
ولقد سمعنا من عدد من المسؤولين السابقين أنهم يشعرون بالندم على تولي منصب رسمي بعد أن كانوا مرتاحين في أعمالهم وحريتهم في مالهم وحياتهم الخاصة والعامة، فبعد الهدوء والرضى انقلبت حياتهم بسبب المنصب الرسمي الى حالة دفاع شرعي متواصل له بداية وليس له نهاية، ولا يعرف الواحد منهم في أي صباح سيستيقظ على خبر (يسم البدن) في صحيفة أو موقع الكتروني ينال من سمعته أو يشكك في مصداقيته وأدائه ليبدأ في تلافي نتائج (رصاصة) انطلقت ولم يعد بالامكان إرجاعها إلى (غمدها).
أما العقلاء الذين يميزون الغث من السمين فهم اما لا يملكون المنابر التي يرفعون أصواتهم من خلالها لقول كلمة الحق والتصدي (لتسونامي) التشكيك واغتيال الشخصية والبطولة الزائفة على موجة محاربة الفساد , واما انهم يرون السكوت من ذهب في زمن ارتفعت فيه أسعار الذهب عالميا وبات ادخاره ثروة.
وبدورهم رجال القانون الكبار الذي يملكون من الخبرة والاحتراف والالتزام بمبادىء العدالة وسيادة القانون يلوذون بالصمت ونادرا ما نسمع بينهم من يقف ليقول للناس أننا بين خيارين فاما أن ننصب محاكم تفتيش تطيح بالصالح قبل الطالح واما أن نؤكد على سيادة القضاء وضمانات العدالة حتى في حالة الجرم المشهود، وحين نختار الثانية فيجب أن نفهم جميعا أنه لا محاكمة جنائية بدون جمع أدلة وتحقيق وقرار نيابة وهو ما يسمى (قرار ظن) وإحالة الى المحكمة، وأن المدعي العام الضعيف هو من يرسل تحقيقاته الى المحكمة ركيكة وبيناته متهافتة وإجراءاته متسرعة وأما المدعي العام المتمكن من عمله فهو الذي يباشر التحقيق غير عابئ بالاستعجال الذي يصم السمع في المنابر والاعلام، ولا يعنيه من الامر ثناء أو نقد يوجه اليه أو ابراز اسمه وصورته في الصحافة، فيحترم مبادىء العدل ويتجنب الانجرار في موجة اغتيال الشخصية ويلتزم حدود القانون وصلاحيات التحقيق واحترام حقوق الآخرين في الدفاع عن أنفسهم.
لا ديمقراطية ولا حرية رأي ولا حوار بدون احترام سيادة القانون وسلطة القضاء المحايد المستقل.. يجب أن نفهم جميعا هذا المبدأ تجمع عليه الأنظمة والأمم ويجب ألا تلتفت السلطة القضائية وخاصة النيابة العامة وكذلك الاجهزة الرقابية وهيئة مكافحة الفساد لنفاد صبر من يقفون خلف الميكروفونات ولا للصيحات الخطابية المنادية بنصب المشانق للمتهمين بالشبهة مهما كلف الامر وعلى المجلس القضائي الأردني أن يرفع صوته الحازم مدافعا عن مبادىء العدالة وإجراءات التحقيق والتقاضي وحق الدفاع.
بين هروب الشرفاء وصمت العقلاء والخوف من الاجتهاد واتخاذ القرار يخسر الوطن ونخثن جسمه بالجراح ونقامر بمستقبل أبنائنا