لا داعي للتأكيد على أن الإصلاح السياسي هو حجر الزاوية في الإصلاح الشامل بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية، لأن واقع التجربة يؤكد ذلك. ولكن في غمرة الاهتمام والانشغال بالأبعاد السياسية والقانونية الناظمة لعملية الإصلاح السياسي، يتم تناسي أهمية الثقافة الوطنية ودورها الجوهري في المسيرة الديمقراطية.
فمن بين القضايا المهمة التي برزت نتيجة للحراك السياسي في الشهور الماضية هو ضعف أو غياب البوصلة الوطنية لعملية الإصلاح من جانب، وخلل في المعايير السائدة في الثقافة الوطنية وخاصة لدى الفئات الشعبية غير المسيسة وبعض الفئات الناشطة سياسيا. إن الأشكال المختلفة للتعبير السياسي تأخذ أبعادا ومواقف قد تكون متناقضة أو غير منسجمة. والنتيجة التي يمكن أن نخلص إليها هي غياب الثقافة السياسية أو وجود خواء سياسي وفكري لدى قطاعات مجتمعية واسعة. وبالتالي، نلاحظ أحيانا أن أكثر أشكال التعبير عن الهموم والمطالب السياسية تتم من خلال أطر شعبية غير سياسية. كذلك، نلاحظ أن هناك توجسا غير مبرر وخوفا من عملية الإصلاح في كثير من الأحيان، والتي تؤشر إلى نزعة محافظة أكثر منها إصلاحية. فهناك رغبة في الإصلاح، ولكن أيضا هناك تخوف من أنماط جديدة للحياة السياسية. فبقدر ما هنالك فجوة في الثقة بين الشعب والحكومة نجد أن هناك فجوة ثقة أكبر بين الناس والأحزاب. وهذا يقود إلى حالة فريدة من نوعها، فالناس يريدون من الحكومة أن تقوم بعملية الإصلاح ولكنها لا تثق بقدرتها على ذلك. وفي المقابل، فإن الناس تدعم بدرجات متفاوتة المطالب الإصلاحية للفاعلين السياسيين (الأحزاب وغيرها)، ولكنها لا تريد إصلاحا يأتي بهؤلاء الفاعلين لدفة الحكم.
إن أحد الأسباب الرئيسية لذلك، هو أن الدولة تاريخيا ولأسباب موضوعية كانت تتواصل مع المجتمع من خلال الأطر الاجتماعية لا السياسية. وهذا كان يوفر الدعم والمشروعية للدولة. وبالمقابل، فقد اكتسبت هذه الأطر التقليدية أهمية بالغة بهذه المعادلة التي استطاعت تاريخيا من خلالها تحقيق أهدافها ومصالحها سواء كانت سياسية أم غير ذلك.
وبالرغم من أن تجربة العمل الحزبي في الأردن طويلة جدا، إلا أنها ولأسباب موضوعية وذاتية كثيرة لم تستطع أن تكتسب لا ثقة الدولة ولا ثقة المجتمع. وبالتالي، فإن حضورها في حياة المواطنين وهمومهم الوطنية والمعيشية لا تكاد تذكر.
ونتيجة لما سبق، فقد ضعفت السياسة، وأصبح لدينا ما يمكن تسميته "بالخواء السياسي" حتى في الاستحقاقات السياسية كالانتخابات وغيرها التي يمكن وصفها بأي شيء غير أنها سياسية.
ويفاقم من هذا الوضع، غياب السياسة والوعي السياسي ببعدهما الفكري عن وسائل انتاج الوعي وبشكل خاص وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية في بلورة ثقافة وطنية تنويرية، تساهم في بناء الهوية الوطنية الجامعة، والنتيجة هي تشرذم الوعي والهوية معا، والتي تؤدي إلى إصطفافات عمودية حول القضايا السياسية والوطنية.
إن المعادلة السابقة، لم تعد مناسبة لإدارة دولة حديثة في بيئة شديدة التعقيد ومع طموحات واحتياجات المواطنين الآخذة بالتنوع والتعقيد أيضا.
إن عملية الإصلاح السياسي لا يمكن أن تكتمل من دون رد الاعتبار للثقافة السياسية والوطنية، ويجب على المؤسسات التعليمية والتربوية أن تضطلع بمهامها، وتكون عامل دفع للعملية الإصلاحية بدل أن تكون أحد عوائقها.