اخبار البلد- بقلم: د. آية عبد الله الأسمر-أحاول جاهدة أن أكون متفائلة خاصة فيما يتعلق بقضايا الإصلاح وإمكانية تحقيق العدالة الاجتماعية، وأؤمن بوجوب وجود فرصة أخيرة لإنعاش الوطن الذي أرهقته سنوات الحشرجة التي يلفظها، بينما يرتع الفاسدون واللصوص المجرمون في أحضان مقدراته ينهبون ثرواته ويعيثون فيه فسادا، إلا أن التحركات الحكومية والحزبية والشعبية الأخيرة كانت وما زالت محبطة ومخيّبة للآمال.
الحراك الأخير سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي ينبئ بأن ملفات الفساد في الأردن لم تُفتح ولن تفتح –ربما- أبدا، لماذا هذا التشاؤم وهذه النظرة السوداوية المتطيرة؟ لأن هذه النتيجة الدميمة المشوّهة هي الحقيقة الوحيدة الطافية على مسرح الأحداث الحالية، نظرا للأسباب التالية:
أولا: عادة أمام كل طغيان واستبداد وظلم وفساد يستشري في أوصال الدولة تقف في وجهه تيارات إصلاحية تعمل على إيقاف مدّه بطريقة سلمية أو تقوم باجتثاث جذوره من خلال الثورات والانقلابات والعصيان المدني والمظاهرات، هذه التيارات الإصلاحية إما أن تكون:
1- أحزابا سياسية وطنية فاعلة وقائمة على أرضية شعبية واسعة ومتضمنة لنخب سياسية وطنية مؤثرة في الوعي السياسي الوطني، وتمتلك كذلك أهدافا محددة وبرامج منظمة ومسار بيّن واتجاه واضح، بالإضافة إلى حيازتها على وسائل وأدوات المشاركة السياسية وجزئيات صناعة القرار السياسي من خلال تمثيلها في السلطة التشريعية.
2- مؤسسات المجتمع المدني من نقابات واتحادات وجمعيات تهدف أساسا إلى تنمية المجتمع المدني، ومن أبرز أهداف قيامها ونشأتها الارتقاء بالمجتمع بكافة شرائحه كل في حقل اختصاصه وضمن مجال عمله، ومن شأن هذه المؤسسات بل من واجبها امتلاك خطاب فكري سياسي مقنع وفاعل تعمل على تفعيله في الأزمات السياسية إضافة إلى خدماتها المهنية والحقوقية والثقافية.
3- النخب الفكرية وطلائع المثقفين الذين عادة ما يتسلحون بالعلم والمعرفة والثقافة والفكر، ويعملون من خلال إعمال فكرهم وتكريس جهودهم وتوحيد أهدافهم الأساسية الكبرى المشتركة، يعملون على التغلغل في الشارع الشعبي بأفكارهم وفلسفاتهم وتوجهاتهم وأيديولوجياتهم ومعتقداتهم موجّهين بذلك الرأي العام ككل نحو الحرية أو الديمقراطية أو العلم أو نبذ العنف أو الوحدة الوطنية أو القومية وغيرها من الأهداف التي قد تفرض نفسها كأولوية وفقا لمتطلبات المجتمع بناء على مرحلة معينة ومعطيات محددة.
ثانيا: هذه التيارات أو القوى الإصلاحية غائبة حاليا بأثرها الفعلي وقواها المحرّكة بالرغم من وجودها –غير المفعّل- على أرض الواقع، دعونا مثلا نتوقف قليلا عند النخب الفكرية وطلائع المثقفين الذين تقع على عاتقهم تعبئة القوى الشعبية بمضامين ثقافية أولية، ومن ثم تنتقل بهم إلى صياغة البعد الفكري ومن ثم تعمل على تجذير هذا الفكر في الوعي الجمعي حتى تصل بهم إلى قمة هرم الثقافة المجتمعية المتمثلة بالمطالب السياسية والإصلاحية، نحن نفتقد إلى هذه النخب التي من شأنها أن تشحذ الهمم وتوحد الصف وتدق ناقوس الخطر وتعلن بداية مرحلة ما أو نهايتها، نفتقدها لأسباب مختلفة منها ما يتعلق بسطحية الفكر المتمركز حول الذات والأهداف الشخصية والمكتسبات الفردية، ومنها ما هو متعلق بفقدان الحماسة والإرادة والرغبة في التضحية بالوقت والجهد والمال من أجل المصلحة الوطنية، أو قضية كبرى نؤمن بها ونبذل في سبيلها سنوات عمرنا كما يفعل الفلاسفة والمفكرون والقياديون والثوار والوطنيون الحقيقيون، أولئك الذين كتبوا بعرقهم ودمائهم التاريخ وعلى أكتافهم الشامخة قامت حضارات وبجهودهم الحثيثة انهارت أمم.
هل هو الخوف؟ أم أنه نفاق؟ أم هي عدم جدية؟ أو ربما إرادة غير كافية وإيمان غير مكتمل؟ ما يدفعنا على الوقوف حذرين خلف فكرنا الإصلاحي ومطالبنا المشروعة وأحلامنا الوطنية، عوضا عن امتطاء صهوة حقنا في الإصلاح والتنوير وقيادة الشعب الذي يعوّل على مفكّريه ومثقفيه لتخطي المحن وإنارة الدرب، وإماطة اللثام عن أوكار الضعف والوهن والفساد ومحاربة الظلم والطغيان والقهر والفقر والجوع والعري، كما هو الحال في كل المجتمعات المدنية والحضارات المختلفة قديمها وجديدها.
ثالثا: لن تفتح ملفات الفساد المكوّمة في أدراج الدولة وخزائنها، والمعششة في مفاصل أجهزتها، والمتفشية كالخلايا السرطانية في جسد الوطن ومؤسساته وقطاعاته، والملتفة كأذرع الإخطبوط على مقدراته وثرواته، لن تفتح لأن الدولة لا تريد أن تفتحها لأنها وكما يبدو ستطيح بالدولة ذاتها، فملفات الفساد ستطال الكل وأعني بالكل الكل دون استثناء، مما يجعل من مصلحة هذا الكل أن تبقى تلك الملفات الملطخة بدموع الشعب الجائع المقهور، حبيسة خزائن التكتم ورهينة أدراج السرية؛ لأن فتح تلك الملفات سيفصح عن أسماء لا يمكن لها أن تدخل قفص الاتهام أو تتعرض للتحقيق وسيربك الدولة، الدولة التي قد اعتادت بل وأصبح من ضمن سياساتها الرسمية تسفير وتهريب أولئك المتورطين في الفساد حتى لا يشي من يقع في مصيدة المساءلة والمحاكمة بشركائه في الجريمة!
رابعا: إذا لن تفتح ملفات الفساد في الأردن لأن من نعوّل عليهم لفتحها هم من أوائل المتورطين فيها، وكما أسلفنا فهؤلاء لا تقابلهم قوى تردعهم أو تجبرهم على تكبيل أيديهم بأيديهم بأصفاد المساءلة والمحاكمة، والقوى الشعبية ما زالت حائرة في أمرها تخوّن الإخوان المسلمين حينا وتشيطن شباب 24 آذار حينا آخر، وتتساءل حول بيان 36 ودوافعه، وتخشى على الوحدة الوطنية التي يبدو أنها بطاقة الجوكر الرابحة لدى الدولة ومخابراتها كلما هتفنا مطالبين بالإصلاح، وفي غياب التيارات المضادة التي تحدثنا عنها يبقى الشارع الأردني أسير الأقاويل والشائعات والتهامس والاتفاق تارة والاختلاف تارة أخرى، والمطالب ممزقة بين مؤيد ومعارض ومتطرف ومعتدل وشرق وغرب وشمال وجنوب، دون أن نجد زعامات سياسية بنبض وطني وعمق فكري وأفق ثقافي وحضور خطابي تتبنى تلك المطالب الشعبية، وتنظمها في خندق واحد واضح ومتفق عليه، ومن ثم تقوم تلك القيادات المستقلة -إلا عن الوطن- على تحويله إلى خطاب شعبي واضح، لا يحتمل اللبس أو التأويل أو التخوين أو التأجيل وتنتقل به إلى مرحلة التعبئة، ونحن بدورنا علينا أن ندعمهم كقوى شعبية ونلتف حولهم ومعهم وبهم على مماطلة الدولة وتسويفها قبل أن تلتف حكومتها ومخابراتها –كالعادة- عليهم وعلينا!