أخبار البلد - أيمن الصفدي
بينما يغرق محيطه الإقليمي في حروب القمع والحقد والجهل والتخلف، ينعم الأردن بالاستقرار والأمن والألفة المجتمعية. يبحث جواره عن سبلٍ لوقف الانهيار الذي يدمره دولاً ومجتمعات، بينما يبحث الأردن في البرامج الإصلاحية التي تطور أداءه السياسي والاقتصادي.
أبقى الأردن أعاصير الفوضى خارج حدوده. وجاء ثباته حصاداً طبيعياً لتركيبته السياسية والاجتماعية، المبنية على إرثٍ صلبٍ من الاستنارة والتماسك ومن التلاحم بين الشعب والنظام.
هذه ليست المرة الأولى التي يُثبت فيها الأردن أنّه دولةٌ راسخةٌ متماسكةٌ نتيجةَ عواملَ قوةٍ حقيقيةٍ متجذّرةٍ في منظومته القيميّة وفي بنيته ومؤسساته السياسية والعسكرية. رغم ذلك، لا تتوقف التحليلات السطحية والأصوات المشككة التي تسعى إلى ردِّ مَنَعته إلى ألف عاملٍ وعامل ليس بينها السبب الحقيقي، وهو أن المملكة دولةٌ ناجحة.
ليس صحيحاً أنَّ مرد حفاظ الأردن على استقراره خلال سنوات الانهيار الحضاري العربي الأخيرة هو تخوّف الأردنيين من المآلات التي انتهت إليها دولٌ مثل سورية وليبيا. لعب ذلك دوراً في تعرية عدمية بعض التحركات والفئات التي أرادت الفوضى سبيلاً لوصولها إلى الحكم. ولا شك أنّه أسهم في فرض رؤيةٍ أكثر واقعيةٍ لكيفية تسريع عملية الإصلاح. لكنْ في المبالغة في أثره إجحافٌ بحق الأردن وتنكّرٌ لمنجزاته عبر عقود بناء الدولة الحديثة.
بعض الأصوات المنادية بهذا التحليل تستهدف الطعن ببنية المملكة السياسية، ولذلك ترفض إرجاع استقرارها إلى عوامل قوتها. وهذه أصواتٌ لن تتوقف. فوجود مروّجيها غير ممكنٍ خارج يباب سلبيتهم.
بيد أنَّ مصداقية دعاة السلبية تراجعت وأجنداتهم تكشّفت بعد أكثر من خمس سنواتٍ من فشل رهانهم. وتنهارُ ادعاءاتهم أكثر مع استمرار المملكة في برامجها الإصلاحية، التي أطلقها جلالة الملك عبدالله الثاني وفق رؤيةٍ متكاملةٍ تتقدّم بالتدرّج الواقعي الذي تفرضه الإمكانات والظروف الموضوعية، وبما يضمن انعكاسها على البلد استقراراً أعمق وخيراً عاماً يدوم.
ينعم الأردن بمجتمعٍ متماسكٍ ذي ثقافةٍ جمعيةٍ مُنفتحة. وتاريخه سجلٌّ موثقٌ من حفظ قيم الولاء للوطن ومن السلم واحترام الآخر ورفض الإلغائية السياسية أو الاجتماعية أو الدينية. وتطمئن المملكة إلى أنَّ حدودها وأمنها يحميهما جيشٌ وطنيٌ قويٌ محترف، ومؤسساتٌ أمنيةٌ كفؤةٌ ومؤهلة. وتنعم المملكة أيضاً بنظامٍ هاشميٍ مستنير، يقوده ملكٌ قادرٌ محدّث ومطورٌ تحظى رؤيته وسياساته بتأييد أكثرية الشعب.
هذه هي أسباب مَنَعة الأردن.
وتواجه المملكة أيضاً تحديات تداعيات الانهيارات في إقليمها المشتعل، وظروفاً اقتصاديةً صعبة، وتباطؤاً في تنفيذ إصلاحاتٍ ضروريةٍ تعالج مواطن خللٍ أساسية في الأداء ومعاداة قوىً لهذه الإصلاحات ورفضاً لها لأسبابٍ متعدّدةٍ وأحياناً متضادة.
مواجهة هذه التحديات تكون بتقوية أسباب المَنَعة وحمايتها، وليس بترويج السلبية أو التنظير بما هو ليس واقعياً أو متاحاً حتى لو خلصت النوايا وراءه.
في عالمٍ مثاليٍ حيث ثمة إجماعٌ على تعريف الإصلاح وحضورٌ لأحزابٍ برامجيةٍ ذات قواعد شعبيةٍ وموارد اقتصاديةٍ وافرة، وحيث لا وجود لداعش وللفوضى على حدودنا، يُمكنُ تحقيق الطروحات التنظيرية التي تطلب قفزاتٍ سريعةً نحو الوجهات الإصلاحية المنشودة.
لكنَّ واقعنا أبعدُ ما يكون عن المثالية. وفي هذا الواقع لم تعجز القوى المجتمعية والسياسية عن التوافق على قانون انتخابٍ فقط. فهي عجزت حتى عن بلورة فهمٍ مشتركٍ لماهية الإصلاحات المطلوبة لتحسين النظام التعليمي الذي بعكس قانون الانتخاب وغيره من المواضيع السياسية، قطاعٌ غير خلافيٍ سيدفع الجميع ثمن استمرار التراجع في أدائه. لذلك يظلّ الإصلاح المتدرّج والتأني في تحديد الأولويات ضرورةً ومساراً منطقياً.
بناء المستقبل الأفضل الذي ينشده الشعب والملك يتطلّب الإقرار بالتحديات، والعمل على معالجة كلّ التشوّهات التي تشوب الأداء السياسي والاقتصادي، وصولاً إلى منظومةٍ تضمن مستوياتٍ أعلى من الشفافية والمساءلة والمساواة وسيادة القانون.
لكنَّ هذا لا يكون بالسلبية والشعارات، بل بالخطط والبرامج التي تفهم الواقع وتلتفت إلى محدداته كما فرصه. فبريق الشعارات خبا تحت قوة إنجاز الدولة الأردنية وصلابة بنيانها. وهذا إنجازٌ يدحض السرد السلبي الذي لا ينفكُّ يسعى لبثِّ اليأس والإحباط، والدفع، قصداً أو نتيجةً، نحو الفشل والفوضى.