خطبة الجمعة في دوار الداخلية كانت «لا أروع»، والخطيب كان عليماً حليماً، ونحو خمسة آلاف من المصلين افترشوا أرض الدوار بخشوع، وبقي عشرات من المعتصمين غير المصلين واقفين بهدوء وسكينة، ولم يفسد المشهد الجليل إلا الردح المقيت أثناء الخطبة من ثلة بلاطجة رئيس الحكومة، الذين تطور ردحهم إلى شتائم أثناء الدعاء في الخطبة الثانية للإمام الشاب، ويسألونك: لماذا يطالب الشباب بالإصلاح؟ فإذا كانت الصلاة لم تسلم من تدخلات الأجهزة، فما بقي؟ لقد حصروا الإسلام في المساجد، ثم اغتالوا خطب المساجد، فلما صلى الناس في الشارع لم يسلموا.
والعقلاء في بلدنا يتساءلون: أيهما أسوأ يا ترى، موقعة الجمل في القاهرة أم موقعة الدوار في الداخلية؟ والجواب واضح؛ لعشرة أسباب، أولها: أن الصلاة في ميدان التحرير كانت لها حرمتها، ويشارك فيها الجميع؛ عسكريون ورسميون وشعبيون، خلف إمام واحد، أما عندنا فرجال رئيس الحكومة لا دخل لهم بالصلاة، ولهم دور في إفسادها، بدعوى الحفاظ على أمن البلد، وهم أول من يخترقه.
وثانيها: أن موقعة الجمل حدثت مرة واحدة ولم تتكرر، بينما هاجم البلاطجة شباب الدوار أكثر من عشر مرات، وأمطروهم بالحجارة والمقذوفات الحادة قبل الضربة القاضية لدرك الحكومة، التي اعتقلت حتى الجرحى وحولتهم إلى أمن الدولة.
وثالثها: أن أحمد شفيق قد اعتذر عن موقعة الجمل، وكرر التأكيد أنها لن تتكرر، وهذا ما حصل، بينما رئيس وزرائنا خرج في ذات اليوم ليقود غزوة إعلامية على الحركة الإسلامية، وينعتها بما كان نعتها به في أيام فتح الإسلام ونهر البارد، وأنا شخصياً عانيت من غزواته في بلدية الزرقاء، وخبرت نزاهته عن قرب، والغريب أن رؤساء وزارات تونس ومصر واليمن وليبيا والمغرب لم تخرج منهم كلمة تهديد أو اتهام، بينما رئيس حكومتنا تصرف بعقلية الجنرال الذي يريد أن يشطب رصانة وسلمية ومدنية وانضباط الحركة الإسلامية بتصريح صحفي واحد، ولربما أثر فيه عيشه في أجواء تل أبيب؛ حيث منطق الجنرالات، ولا شيء سوى الجنرالات.
ورابعها: أن الخسائر في الإصابات نسبة إلى عدد السكان بين البلدين كانت أكبر في عمان، مع ملاحظة أنه لم يسلم واحد من المعتصمين من الضرب المبرح والأذى، ولكن الغالبية عادت لبيوتها، ولم تسجل ما حصل لها.
وخامسها: أن الذي نفذ مجزرة التحرير في القاهرة بلطجية مدنيون أو أمنيون بلباس مدني، بينما تم الانقضاض في عمان بالدرك الرسمي، وبقرار رسمي، واحتفال رسمي، رقص فيه الراقصون على جراحات أبناء شعبهم، ولم يراعوا حرمة دم الأبرياء، ولا أرواح الشهداء، في بلد عرف بأنه ليس دموياً.
وسادسها: أن الإعلاميين والنساء وكبار السن لم يمسوا في موقعة الجمل، وعلى نقيضه ما حصل في عمان؛ حيث لم يَسْلَمْ إعلاميٌّ أو امرأة أو فتاة، والشهيد كان كهلاً.
وسابعها: أن شباب التحرير كانوا يقاومون موجات الهجمات البلطجية، لا بل كانوا ينزلون الخيالة من ظهور الدواب إلى الأرض، بينما أعطى شباب 24 آذار أجمل صورة عن الانتظام والالتزام والتصرف بإيقاع واحد، في اعتصام سلمي مدني إصلاحي حضاري، يتصرف فيه الجميع بإيقاع واحد، بسماعة واحدة، بلغة راقية، وصبر عجيب، واحتساب كامل؛ فداءً للوطن وشعبه ومصلحته الأكيدة في الإصلاح المنشود؛ تحقيقاً للحرية والكرامة والعزة التي تصر الحكومة على أنها لا تتحقق إلا من خلال نظرتها الضيقة، وقبضتها الأمنية، وسياساتها المكرورة التي أوصلتنا جميعاً إلى حائط مسدود؛ فالحكومة لا تريد أن تسمع من منصة شبابية منظمة، وتمارس مرجعيتها الجمعية على شبابها من كل لون، وتريد ترك التحرك غير المحسوب للمغامرين والمغامرين فقط.
وثامنها: أن الحركة الإسلامية في مصر كانت لها اليد الطولى في الاحتجاجات في طول البلاد وعرضها، وكان شبابها هم لحمة المرابطين في ميدان التحرير، ولم تُتَّهَمِ الحركة الإسلامية هناك بأنها فتنوية، رغم عداوة الأنظمة المصرية الملكية والجمهورية المتعاقبة لها، بينما يخرج علينا دولة رئيس وزرائنا بأسطوانته المعهودة ضد الحركة، الأمر الذي هيَّجَ مجموع جسم الحركة الإسلامية، وأسهم في تحريك كافة تشكيلاتها في كل المحافظات؛ للتأهب لمؤازرة برنامج شباب 24 آذار المنتظر، لا بل إن أهل عمان العاصمة، رغم معاناتهم المزمنة من السياسات الخاطئة، وعزوفهم عن المشاركة الميدانية، استفزتهم معالجات حكومة الرئيس، وهيجت مشاعرهم هتافات بلاطجته، وهذا كله بفضل العقلية الأمنية الضيقة.
تاسعاً: لم يخسر الشباب شيئاً، وخسرت حكومة الرئيس كل شيء؛ فالإرادة للإصلاح زادت، وبرنامج التحرك لديهم جاهز، وجولات الاحتجاج قائمة، ولن يمل الشباب حتى يمل الموظفون، بل إن اعتصام الدوار سجل أول حركة شبابية منظمة، فقمعتها الحكومة، لتتحول إلى نفس شبابي يمثل شرارة الروح لهذا الوطن المتميز في كل شيء، وأمْيَزُ ما فيه شبابه الذين قامت على أكتافهم تنمية دول في الخليج وغيره. كان الشباب غائبين في الفعاليات التي امتدت ثلاثة أشهر، وهذه الغزوة الحكومية للدوار ستجعل منهم تياراً هادراً يهتف في مسامع الحكومة أن «الإصلاح هو الحل»، بعدما أدارت ظهرها لكل القوى التقليدية وفعالياتها المتلاحقة.
عاشراً: ولعل المستهدف الأكبر في غزوة الحكومة للدوار هي الحركة الإسلامية التي بقيت 66 عاماً تربي وترشد وتنصح وتصبر على ضيق أفق المعالجات السقيمة لقضايا الوطن الكبرى، فدفعها تصرف الرئيس إلى واجهة الأحداث كقطب في حقبة توحد فيها وجدان الأمة على المطالبة بالإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
لم يحصل في تاريخ الحركة الإسلامية الأردنية أن تخلت عن رايتها وأولوياتها وهتافاتها وشعاراتها وخصوصياتها ولونها، ونحّت حتى التكبير، مع أنه جامع وطني لهذا الشعب الذي ليس كمثله شعب عربي في تماثله، كل هذا وغيره نحّته الحركة الإسلامية، لتتواضع لأبناء شعبها؛ حتى يجري نهر الإصلاح، ليصب في حيازة الوطن المبارك.
يا دولة الرئيس.. الإسلاميون مَرِنون، وليسوا محنطين أو موظفين حتى يتلقوا تعليمات من الخارج بحسب قولك، بل للوطن أن يفخر بانضباطهم تحت العلم الوطني، وهتافهم الوحيد للوطن الغالي، ورجاؤهم الأكيد أن يحصل الإصلاح في بنية النظام بما يمكن الشعب من ممارسة حريته وسيادته وكرامته في حكم نفسه عبر عمليات انتخابية عادلة، تفرز سلطات تنفيذية وتشريعية تعبر عن إرادته، ويحتكم الناس إلى قضاء مستقل يسهم في وأد الفساد، وإنعاش الاقتصاد، وإلغاء الاستبداد.
يا دولة الرئيس.. الشعب الأردني بمجموعه سئم الفساد المركب، ولكنه كان سلبياً ومتنحياً، ولكن الفضل كله في تحريك الركود، وكسر الجمهود، للشباب، ودفعه نحو التجاوب مع الإصلاح، أما الأقلية التي تقاوم وتتطاول على الشباب فسرعان ما تكتشف أن مصلحتها وفائدتها في الانتظام في صف المصلحين، والصلاة مع المصلين، والتأمين على دعاء المعتصمين، ولو بعد حين، فالأردن جزء من حوض البركة الذي مركزه صخرة الأقصى، وتحيط به أكناف البركة، لا أقول بركة المكان فقط، بل بركة الإنسان، وبركة الزمان والعمران، وكل شأن، وعليه: فخذنا بالمعروف يا معروف.