«المعلمون المتنقلون» سبقوا «الأطباء الحفاة»

«المعلمون المتنقلون» سبقوا «الأطباء الحفاة»
أخبار البلد -  

كانت المخافر والثكنات العسكرية هي اول التعليم في الاردن، فقد تم اعتمادها واعتماد نمط جديد من المعلمين، هم المعلمون المتنقلون، في بداية الثلاثينيات، لتعليم الجنود وتدريسهم وازالة أميتهم، وسط إقبال كثيف على "فك الحرف" الذي كان لغزا. وقد سبق بلدنا باسلوب "المعلمين المتنقلين"، الثائر الأسطوري ماوتسي تونغ، زعيم الثورة الصينية العظمى ضد الاستعمار الياباني، الذي استحدث عام 1949 أسلوب "الأطباء الحفاة"، وهم الأطباء الذين انتشروا يخوضون، حمأة مزارع الأرز، في بر الصين الشاسع الكبير، لمعالجة القرويين مجانا في قراهم.

ثم تولى الجيش عبر مدارس الثقافة العسكرية تبعات التعليم واعباءه في المناطق التي لا تتمكن وزارة التربية والتعليم " وزارة المعارف آنذاك" من الوصول اليها او بهدف تعليم أبناء العسكر الذين سيصبحون عسكرا يرثون الشعار والبوريه من آبائهم. فتم انشاء مدرسة القويرة وكلية الشهيد فيصل عام 1946 ومدرسة النصر- مدرسة الثورة العربية الكبرى عام 1949.

درّسَنا في المدرسة العسكرية الهاشمية في المفرق، معلمون عسكريون من مختلف الرتب، برئاسة ضابط دمث طيب هو الملازم عادل محمد حسن، ولن انسى عندما زار مدرستنا عام 1962 عثمان بدران مدير الثقافة العسكرية المجاهد الكبير في فلسطين، الذي حمل لنا حلوى "الككس" التي رأيتها للمرة الأولى والتهمت حبة منها بعد ان تأمّلتها طويلا.

كانت المدارس العسكرية تتميز بالجدية والصرامة والضبط والربط، وكان الطلاب كأنهم جنود في ثكنة عسكرية، وقد صقلت شخصيتي كثيرا السنوات الأربع التي درستها في تلك المدرسة، السادس والسابع والثامن والتاسع ( 1959-1963)، عام 1963 قدمت امتحان الثالث الاعدادي العام على مستوى المملكة، واظن انني أحرزت علامات عالية جدا جدا فيه.

احرز فريق مدرستنا بطولة مدارس القوات المسلحة بكرة القدم عام 1962 في المباراة النهائية بيننا وبين مدرسة الفتح، بهدف سجّله من كرة مرتدة من ركلة جزاء، الصديق الحميم -الى اليوم- علي سلامة أبو فلاحة المشاقبة، وحصلنا على الكأس وشبعنا من حلوى "الككس" الذي ابتاعه لنا معلم اللغة الإنجليزية والرياضة الأستاذ جميل الخزوز، من جيبه الخاص، كنت ألعب في الفريق الذي اذكر منه، علي خلف الحمود وفرح الربضي، ظهيرا ايسر (هاف باك) فحصلت على الميدالية الذهبية التي تباهيت بها امام صديقتي عدة أيام، وقد عرضتها عليها فخشيَت ان تأخذها فيراها أهلها، وامام إلحاحي تجاسرت ووافقت على ان تأخذها فتضعها تحت وسادتها لليلة كاملة ثم تعيدها لي مضمخة برائحتها. اكتشفت عندما حاولت بيع الميدالية الذهبية، بسبب الطفر، ان ليس فيها غرام ذهب واحد وانها مصنوعة من البرونز الذي لا يساوي شيئا.

كان المعلمون أولّ الطلائع الأردنية المباركة التي رادت القرى، قبل الصحة والطرق والهاتف بسنوات، وقد اسلفت بذكر المشاق والقسوة والصعوبات التي عمل فيها المعلمون دون تبرم او تذمر، ولما سردت لجدي ما الذي كنا نعمله من غسل وبح وكوي وكنس وطبخ وجلي وعجن وخبز وتحطيب ونتف ريش الشنانير التي نصطادها وذبح الخراف التي نشتريها وسلخها وتقطيعها قال مستغربا: كل شي عملتوه وما ظل غير ترضعوا !!

غبت عن المدرسة أسبوعين دون علم اهلي، كنت اخرج صباحا والتقي بصديقين فارين مثلي فننطلق الى تسلق الأشجار ولعب كرة القدم وتقليد الهنود الحمر في زعيقهم ورمي السكاكين وصنع الرماح. سمعت امي طرقا على الباب وكان الوقت عصرا ولما فتحته سمعتُ صوت رجل يتحدث معها، ميّزت صوته، هذا مدير مدرستي عادل محمد حسن، عندما علم انني في المنزل رفع صوته ونادى عليّ طالبا ان يراني، كانت امي مصعوقة بسبب غيابي السري عن المدرسة، دخلت وهي تولول ودموعها على عرض وجهها. قال لي المدير: ارجع الى مدرستك من الصبح. قلت: ولكنني سأتعرض للعقاب. قال: هالمرّة سماح يا محمد، ما في معلم رح يحكي معك، ارجع على كفالتي.

كانت على المعلم مسؤوليات تتعدى غرفة الصف وتتجاوز سور المدرسة، مسؤوليات تتنوع وتتوزع على مختلف شؤون الحياة الخاصة بطلابهم.

كنت في الصف الثالث الاعدادي، قررت ان اترك المدرسة وان اسجّل في الجيش، اتفقت مع فايق على الذهاب معا، استيقظت مبكرا على قرع فايق على الباب وعندما فتحت الباب لأغادر المنزل فاجأتني امي بسؤالي: الى اين في هذه الساعة المبكرة؟ ذكرت لها أي سبب وخرجت. كان الناس يدخلون كالنهر الى معسكر "خو" قرب الزرقاء، اباء وامهات يصطحبون ابناءهم للتسجيل في الجيش يعبرون بوابة عرضها يزيد على عرض ملعب كرة القدم وعلى طرفها يجلس غفير يضع بندقيته على فخذيه، عبرنا البوابة فاذا بالغفير يصرخ: انتا انتا، ارجع. رجف قلبي، تجاهلته ولم التفت فلعله يقصد شخصا غيري. انتا يا ولد اقلك ارجع. كان صوته غاضبا وكانت يده على كتفي. ما تسمع؟ اقلك ارجع. عبر فايق ورجعت.

كنت الوحيد الذي رجع من بين مئات الشباب العابرين تلك البوابة العريضة. ناورت، مشيت مسافة طويلة وعملت حركة التفاف على زاوية شيك المعسكر الذي رفعته وانحنيت فدخلت الى المعسكر وتوجهت الى قاعات استقبال المجندين الجدد. سمعت الغفير يصرخ: ارجع ارجع. توقفت. رايته يصوّب بندقيته من بعيد نحوي وصرخ: اطخك ان ما رجعت. رجعت، غادرت خو مكسورا ودموعي على عرض وجهي.

عندما فتحت لي امي باب المنزل عصرا قالت لي: انا لا اعرف الى اين ذهبت يا محمد وماذا كنت تنوي ان تفعل لكنني رفعت كلتا يدي الى السماء ودعوت عليك قائلة: الله لا يوفقك يا محمد في مشوارك اليوم !!

قلت لنفسي ان الغفير، الذي دقر لي وترصّدني واختارني من بين مئات الشباب، العابرين بوابة، ليس لها غفير في العادة، وارجعني وحدي، دون أي مبرر او سبب، ينفذ دعاء امي الذي غيّر مسار حياتي ومصيري !!

وبعد نحو ستة أعوام التقيت بمديري الغالي عادل محمد حسن في وزارة التربية والتعليم اخذته بالحضن وعبرت له عن شدة احترامي له، كان على عجلة من امره في طريقه الى اجتماع، لكنه سألني سؤالا هزّني ولا يزال الى اليوم يهزني ويثير استغرابي وحيرتي: انتا ما سجلت بالجيش يا محمد؟ قلت له: رجّعوني، ما سمحوا لي. ابتسم ابتسامة غامضة ومضى.

ما الذي حصل آنذاك؟ من الذي لعب ذلك الدور الحاسم في حياتي؟ اهو دعاء امي بان لا يوفقني الله في مشواري، ام هو مديري عادل الذي ألمح إلماحة هائلة تدل على معرفته بما عزمت عليه وما حصل معي. هل هو من كان في سيارة الجيب العسكرية التي مرت بقربنا والتي لمحت فيها، من خلال غبارها الكثيف، ضابطا يشبهه وانا في الطريق الى "خو".

عاد فايق بعد شهرين وهو يرتدي "البذلة" العسكرية والطماقات والقايش والبسطار والبُريه التي يزينها شعار لامع وكانت محفظته عامرة بالليرات، جعلني زي فايق ومحفظته في ذروة استيائي وسخطي على امي وكانت المرارة تملأ حلقي والغيظ والغضب يسيطران علي.

لعب المعلمون أدوارا كبيرة في حياتي وجمعتني بهم صلات طيبة وساظل اذكر العصامي الجاد معلم اللغة الإنجليزية خلف الناطور المخزومي وعبد الله تليلان معلم الرياضة المحترف المخلص وعادل الشريقي وأبو علاء الداغستاني وذوقان عبيدات الذي درّسنا في معهد التاهيل التربوي وتبادلت معه الكتب في حينه وعشرات المعلمين الذين ستستردهم الذاكرة ولو بعد نصف قرن.

عندما أصبحت صحافيا بحثت عن عثمان بدران وأجريت معه لقاء شخصيا حدثني فيه عن ذكرياته وتاريخه الجميل النبيل، نشرت ذلك اللقاء في صحيفة "صوت الشعب" تحت عنوان وجها لوجه. وعندما أصبحت وزيرا للشباب بحثت عن عبد الله تليلان وتمنيت عليه ان يقبل عضوية اللجنة الأولمبية الأردنية، وبحثت أيضا عن المبدع المتميز ذوقان عبيدات وتمنيت عليه ان يقبل امينا عاما للجنة الأولمبية الأردنية.

اشعر ان ذكرياتي هذه كمعلم اوشكت على التمام وانها أدت الغرض منها. ولطالما خشيت ان أكون قد اطلت الا ان الأصدقاء الذين تابعوا هذه الكتابة ظلوا يلحون عليّ بان اواصل، علما انني اكتبها في سهرة تمتد ساعات ليلة الجمعة/السبت لذكريات الاحد وليلة الثلاثاء/الأربعاء لذكريات الخميس. ويجدر ان اذكر انني اكتبها بمنتهى الاعتناء والتدقيق، وقد تحمّل الكثير من الايميلات من اجل المزيد من الدقة صديقي أسامة الرنتيسي رئيس تحرير "العرب اليوم". لقد حثّني ابني عمر طويلا على كتابة هذا اللون فقد كنت اقص عليه وعلى اسرتي أحيانا بعض ما جرى معي، وبعد ان بدأت واصل ابداء ردود فعل مشجّعة اعتمدتها لانني اعتبره ضميري وناقدي الذي اثق بسلامة ذائقته.

وكان للتعليقات الكثيرة على الفيسبوك وعلى موقع "العرب اليوم" دور حاسم في الاستمرار ومواصلة الكتابة وقد استغربت كيف يهتم أبناء هذا الجيل بتلك المعاناة التي مر عليها نصف قرن وأصبحت من الماضي. واسمحوا لي ان أوجه التحية الحارة لمن واكبوا هذه الذكريات وساهموا في استمرارها بالتوجيه والنصح والاستزادة:

رئيس المجلس القضائي الأعلى هشام التل، الدكتور ممدوح العبادي، مازن الساكت، بشير الرواشدة، د.مبارك الطهراوي، د.النائب بسام البطوش، مالك حداد، نوفان الشواقفة، عبد المهدي علي التميمي، البروفيسور عصام سليمان الموسى، الصحافي حامد العبادي، مالك نصراوين، د.جهاد المحيسن، د.سليمان النصيرات، د.سميح عريقات، خالد الحسينات، خميس أبو زيد، الصحافي المهاجر محمد صيام، جمال حمد الحجاج، هايل العبيديين، قبلان السكارنة العبادي، موسى الطراونة، رجا الخوالدة، د.منار النمري، سعد العشوش، مروان المعايطة، الفنان محمد الجالوس، رائد الناصر-استراليا، المحامية نرمين المعايطة، عبدالله الخوالدة، د.بسام العوران، الكاتب حكمت النوايسة، فارس عيد غنام، الشاعر سرحان النمري، عبد الله ارتيمة، د.غازي الكوبري، نخلة بابل، عاشقة الطفيلة، عوني فاخوري، نبيل داودية، د.عمار المعايطة، المهندس حازم عبيدات، الشاعر سليم الموسى، ناصر الخزاعلة، د.بشار الخرشة، عيسى العمري، اياد العمري، د. نضال الملكاوي، رويدا موسى، منال النظامي، رانيا كساب، سامي دهيمات، فادي الشبيل، مجدي وشاح، مي بصبوص، عبد الوهاب الرواجفة، نانسي عيسى الرفاعي، يونس الدوايمة، رامي علاونة، منذر دبابنة، جودت رفايعة، محمد موسى، مبارك العمري، منى القسوس، محمد عبدالعزيز الخصبة، عبد القادر التميمي، رومي الملكاوي، عبدالرحمن محمد الداودية، باسل شناق، رجب الربيحات، راجي دبابنة، غسان كساب، عمر عدنان المراحلة، احمد النشاش، محمد بني خلف، حسن أبو شاور، عبدالله احمد علاوي، جودة شنك، اكمل حداد، مجلي بوالصة، احمد الخوالدة أبو باسل، عدنان حدادين، علي الرعود، هالا الحويطات أبو رصاع، نضال نايف شواقفة، محامي ناصر غرايبة، عقبة أبو هدهود، محمد سلطي جداية، د.سفيان الحجايا، د.محمد محافظة، عطاالله علي حسون، سنان عمريين، غالب سلمان، سالم الخزاعلة أبو احمد، فراس القعقاع، وليد بقاعين، خالد الحسبان، مازن الجريري، ظافر أبو البندورة، فارس دبابنة، طارق بني ياسين، بلال برهم، ماجدة عبويني، رائد البداينة، حامد الحاج حسن، يحيى الداودية، كمال أيوب، تيري جنتين، مهند تادرس، مأمون عياش، عبد السلام العودات، محمود الوحوش وغسان طاشمان.

 
شريط الأخبار رئيس الوزراء يتفقد المركز الصحي الشامل في منطقة رحاب بالمفرق الخارجية الإيرانية: أي دولة تسمح لأعدائنا باستخدام أجوائها ضدنا ستتحمل المسؤولية رسميا.. إعلان نتائج الشامل للدورة الصيفية ونسبة النجاح 62.9 % (رابط) حزب الله استعاد القيادة والسيطرة والميدان شاهد عليه كوريّة جنوبية تبلغ 81 عاماً يخونها تاج ملكة الجمال 5 أطعمة ممنوع تناولها بعد سن الستين 9 شهداء في قصف على دار أيتام في غزة إعلان نتائج الشامل للدورة الصيفية اليوم وفيات الأردن اليوم الأربعاء 2-10-2024 9 شهداء بقصف مدرسة ومعهدا للأيتام يؤويان نازحين في مدينة غزة «حزب الله» يعلن التصدي لمحاولة تسلل... وإسرائيل تتحدث عن «قتال عنيف» حزب الله: تصدينا لقوة مشاة للاحتلال حاولت التسلل إلى جنوب لبنان الدويري: هذه مميزات صاروخ "فتاح 1" الإيراني الذي ضرب إسرائيل الحكومة: حماية الأردن والأردنيين مسؤوليتنا الأولى.. ولن نكون ساحة للصراع أجواء لطيفة في المرتفعات والسهول ومعتدلة في باقي المناطق سقوط شظية بطول مترين في السلط فيديو || منفذا عملية يافا طعنا جنديًا واستوليا على سلاحه... وتضارب الأنباء حول عدد القتلى والجرحى سقوط شظايا فوق سطح منزل في المفرق بيان صادر عن وزارة الداخلية الجيش يدعو المواطنين إلى البقاء في منازلهم بعد إطلاق صواريخ من إيران نحو إسرائيل