ان غياب التوافق الحقيقي حول المرتكزات الأساسية للنظام السياسي في العراق، انعدام الثقة وغموض النوايا والارادات، تشظّي القوة وضعف القدرة المركزية، الصراع حول السلطة والجهل في كيفية تسيير الدولة، والحفاظ على المجتمع متماسكا في اطار الهُوية الوطنية المعرّفة والمتّصلة بانتمائها العربي، أدّت الى قيام نزاعات وصراعات وحدوث أزمات وكوارث هيكلية عجزت الدولة والحكومة والبرلمان بتركيباتها الهشّة الحالية عن ايجاد مخارج متوازنة، تمنع عن المواطنين التصاعد الحلزوني في التكاليف الجسدية والانسانية والاجتماعية.
غياب الرؤية والحكمة والحنكة عن صنّاع القرار السياسي، وخضوعهم للتأثيرات الخارجية ذات الأجندات المتقاطعة غيّب المصلحة الوطنية العليا للوطن، وعطّل أن يكون العراق عنصرا فاعلا في معادلة توازن جيو- استراتيجية اقليمية تحقّق الاحتواء والردع والأمن والاستقرار، وتطوير القدرات والطاقات في المدى المنظور. الدولة والحكومة والبرلمان عجزت عن تسيير المنظومات وتفعيل القوانين والاجراءات، تّجاه حماية سيادة العراق وأرواح وممتلكات مواطنيه، وتوفير الاحتياجات الأساسية في حدّها الأدنى (الأمن الجسدي والانساني ووقف فوضى الاقتتال والقتل والتدمير، النزوح والتهجير واللجوء الجماعي، توفير فرص العمل، خدمات التعليم والصحّة والضمان الاجتماعي).
الصراع المحموم حول الاستئثار بمواقع القوة والسلطة والمال العام، قاد الى تدمير الموارد المادية والبشرية، وتهتُّك البيئة الاجتماعية وتغوّل منظومات الفساد والافساد داخل الدولة والحكومة والبرلمان.
فشل الدولة وفساد الحكومات جعلا من العراق مسرحا لحروب إنابة عن قوى ظلامية مجهولة المنبت والأجندات، تعمل آليّاتها الميدانية على نشر الموت والدمار، واشاعة الفوضى في قلب المركز الجيوسياسي الاقليمي، (العراق وسورية).
للأسباب أعلاه وغيرها، وصلت القوى السياسية جميعها الى"معادلة صفرية"، فأصبح من المستحيل التوقّع بقدرة أيّ منها، أو حتّى مجتمعة على ما هي عليه، امكان احداث التغييرات المطلوبة والمرغوبة في الاتّجاهات الانسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في المدى المنظور، وبشكل يحقق العدالة والمساواة. لذلك كلّه بات العراق بحاجة ماسّة لدعم وطني واقليمي ودولي متزامن متّسق ومحكم.
في ظل التجارب والأحداث، يؤكّد بعض الخبراء الاستراتيجيّون ان حدود الأمن الوطني الشرقي للمملكة الأردنية الهاشميّة يمتد من الجزيرة والشاميّة في داخل العراق (حدود نهر الفرات) ولا يبدأ عند الحدود السياسية كما يتصوّره آخرون، نظرا لطبيعة الأرض والسكّان وتغيّر البيئة الجيوــ ستراتيجية والجيوــ سياسية وظهور عناصر وآليات ميدانية مؤثّرة عابرة للحدود الوطنية والاقليمية (المليشيات العرقية والطائفية، داعش وغيرها). في ضوء ذلك يصبح الأمن الأردني ضرورة استراتيجية قصوى تفرضها طبيعة جغرافيّته وقدراته وامكاناته وظلامية القوى التي تستهدف كيانه! طبيعة النزاعات والصراعات وتصاعد التهديدات في الانفتاح تشكّل تهديدا مباشرا لأمنه الداخلي، من خلال تعطيل القوة والدبلوماسية الناعمة (ما حصل للشهيد معاذ الكساسبة) ما يشكّل ضغطا مزدوجا على منظومات الدولة السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية للأردن! أمن واستقرار الأردن موضوع مركزي اقليمي يقضي بعدم وجود منطقة، أو مناطق ملتهبة تجاوره، ولفترة طويلة من الزمن تحمل في طيّاتها نوايا مجهولة، وإرادات وآليّات غامضة. خطورة الموقف يتطلب النظر في:
1.اعتماد الأردن آليّات سياسية ولوجستية في اطار "التدخّل الاستباقي" الذي يعمل على تنسيق وتنظيم الجهد الوطني العراقي (سياسية وميدانية واجتماعية) والاقليمي والدولي لدعم مشروع ايجاد نظام سياسي مدني ديمقراطي متوازن قادر على السيطرة والتحكّم في القوة والسلطة وادارة شؤون الدولة والمنظومات، وفق مبادئ ومعايير الحوكمة، في الجانب التشريعي والقضائي والتنفيذي، وفي المراقبة والمحاسبة (حكومة نخب وطنية نزيهة)!
2.تنظيم عقد مؤتمر وطني شامل للأطراف العراقية ذات العلاقة بعناصر القوة والارادات الميدانية والسياسية في المشهد العراقي بهدف التوصّل الى توافق سياسي يتبلور في صيغة ميثاق سياسي وطني، وخريطة طريق وآليّات تنفيذ ومتابعة وتصحيح. التنسيق لتوفير الدعم العربي والاقليمي والدولي لعقد هكذا مؤتمر وتأمين حضور مراقبين.
3.انجاز النقاط السابقة يفتح الطريق أمام قيام تعاون ثنائي حول منظومات أمنيّة مشتركة مستقرة مع العراق، تمنع قيام أيّ تهديدات مؤكّدة، أو ممكنة أو محتملة، ما يكسب الأردن قدرات أمنية أكبر بتكاليف أقل عن طريق وجود قوّة عراقية ذاتية كفؤة قادرة على حماية الأمن الوطني العراقي والأردني والاقليمي.
4.الدور التنسيقي الأردني سيساعد الجميع في أن يكون العراق عنصر استقرار فاعل في المحيط الجيوسياسي الاقليمي.
الأحداث تتوسّع وتتسارع وتتعقّد ما يتطلب تحرّكا سريعا لمنع تمكين الفوضى والارهاب.