كان في تلك البلدة الهادئة الجنوبية أم لها صبيان يلعبون كل يوم بالحجارة ونوى الزيتون ومن الصحف القديمة يصنعون سفن وطائرات ورقية وكانت الأم تطهو الطعام الطيب لأبناءها وأصدقاءهم. كان هنالك جبال عالية مزروعة بالأشجار الحرجية تحيط ذلك المكان وتحجبه عن ما يسمى بوادي الوحوش. كانت تلك الأم تربي أبناءها على الشجاعة وتروي لهم كل يوم قصص البطولات القديمة تقرؤها من كتاب قديم له قدسية محفورة فيه الحروف على أوراق خشبية مثبتة بمسامير صغيرة وعلى مر السنين حاول سكان وادي الوحوش سرقة ذلك الكتاب المقدس عدة مرات لكنهم فشلوا مع أنهم تمكنوا من خطف الكثير من السكان الذين ينتظرهم مصير مجهول للجميع ولكن بعد مرورسنوات قليلة حالفهم الحظ بالنجاح في سرقة الكتاب وتزوير قصص البطولات فيه بلصق أوراق مضمونها الهراء والكذب لخداع القراء والأجيال والسياح.
من بين صبيان البلدة كان صبي يعشق التحليق وكان يلقب ب معاذ بطل البلدة منذ صغره وعندما كبر وأصبح شابا أراد أن يتصدى لوادي الوحوش ويستعيد كتاب أجداده فصنع طائرة من سيقان أشجارموجودة على سفح الجبال العالية المحيطة ببلدته ومن أوراقها صنع السقف وثبته بإحكام، وفي ذات يوم قرر أن يغادرالى وادي الوحوش وخرجت والدته تودعه ودموعها تذرف دون توقف وتدعو له بالعودة منتصرا ومعه الكتاب وخرج معاذ بطل البلدة بفخر وعيناه فيهما بريق النصر على أمل أن يعود الى بلدته في اليوم التالي.
وفي اليوم التالي كان مساء استثنائي تكاثفت فيه الغيوم وازدادت شدة اسودادها دون أن تهطل الأمطار بالرغم من طول الإنتظار للمزارعين في ذلك المساء توارت الشمس خلف الجبال الكبيرة التي بدت سوداء عندها ماتت جميع أشجارالبلدة بعد تعرضها للعطش الشديد وبنى اللصوص منها جدار خشبي واختبئوا خلفه وأصيب الأطفال الرضع بالجفاف وطاف النهرمن دموع الجياع ونامت النار في جميع المنازل، في ذلك المساء ضاعت الطرق عندما ضاع الكبرياء بين صراعات العظماء في ذلك المساء اختفت الكتب والمعاجم من قلة القراء وانتشرت الجرائم ورحلت العبرة وشيعوا جنازات الحقائق وباتت التعابير متشابهه وكأن شيطان الشؤم سكن البلدة.
وعند غياب الشمس كان بطل البلدة الجنوبية قد وصل الى حدود الوادي فوقف هنالك وتمالك أنفاسه لينظر لأول مرة من طائرته نظرة شاملة على الوادي وعندها أحضر المنظار ليرى ما هوعجيب ولم تتوقعه عين بشرمن قبل فاهتز من الخوف لكنه تماسك وعاود النظر فرأى جثث على ضفاف الأنهار وهياكل عظمية متناثرة فوق أشجار الموت المتشابكة أغصانها ورأى أفاعي جائعة تنظر للأعلى تنتظر فريسة مارة أما في منتصف الوادي فرأى الشاب حفرة تشتعل فيها نيران وفجأة وقبل أن يضع المنظار التفت حول الشاب أفعى عملاقة كادت أن تخنقه لكنها حملته الى سيد وادي الوحوش ليقابله وكان السيد يرتدي ثيابا ناعمة الملمس ويضع أمامه كتاب البلدة المسروق ويعلق على جدران الحصن العبر والحكم ذات القدسية بخطوط عريضة وكان يحمل في يده كأس ذهبي مرصع بالجواهر البراقة وفي داخل الكأس شراب أسود مجهول سره، وأثناء مثول الشاب أمام السيد بذهول وفي غمضة عين قام اثنين من الحراس بجر الشاب من كتفيه ليأخذانه إلى حفرة النار وبدأت الطبول في وادي الوحوش تقرع وتصل أصداءها إلى البلدان المجاورة وفي لحظة من اللحظات كانت الأم تحمل أطباق الطعام فسمعت أصداء قرع الطبول فسقطت منها الأطباق على الأرض دفعة واحدة وراحت تركض وتصرخ بجنون ابني ابني.... عندها أمطرت السماء بغزارة لتغسل الرماد.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون""
صدق الله العظيم