عبد خلف داودية يرحل دون ضجيج، وقد كان أحد رجالات الأردن البارزين، حيث كان أول نقيب للمعلمين عندما تأسست نقابتهم في أواسط القرن المنصرم، كما كان أحد أفراد الرعيل الأول، الذين حملوا عبء تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وكان عضو المكتب التنفيذي فيها بجانب المرحوم محمد عبدالرحمن خليفة، في أواخر الخمسينات وأوائل الستينيات، إبان حقبة عصيبة ومضطربة مرت بها الأردن والمنطقة عندما كانت الانقلابات العسكرية تعصف بالأقطار المجاورة.
تقلد عبد خلف داودية مناصب حكومية عديدة في الحقبة المنصرمة حيث كان وزيراً للأوقاف، وقد عرف الرجل بالاستقامة والصرامة وقوة الشخصية، وقد سمعت ثناءً عطراً بخصوصه من الشهيد الدكتور عبدالله عزام رحمة الله، عندما كنا طلابً في الجامعة الأردنية، وقد كان للدكتور عزام فضل كبير في تعريفنا بهؤلاء الرّجال، الذين تم تغييبهم عن المشهد وحجبهم عن الجيل الجديد بطريقة ممنهجة، وما زلت أذكر تلك الرواية من فم الشيخ عبدالله عزام عنه عندما كان مديراً للتربية، وحضر إلى إحدى المدارس التي تشهد إضراباً للطلبة والمدرسين وبمجرد حضوره كان كافياً لفك الإضراب، وذلك لقوة شخصيته وحضوره الطاغي، الذي كان يملأ المكان ويجد احتراماً وهيبة لدى عامة الطلاب والمعلمين والإداريين في الوقت نفسه.
عندما يكون الرجل نزيهاً وموضوعياً، ومنتمياً لوطنه وأمته، ليست يداه ملوثة بالفساد، ويحمل نفسية عالية لا تعرف الدنايا، ولا يشتغل بسفاسف الأمور، ويجمع إلى جانب ذلك تدين فطري بعيد عن النشوه، وبعيد عن التنطع والتطرف، ويرى في المنصب مسؤولية وكلفة ومغرما، ولا يرى المنصب الحكومي أداة للتعالي على الناس، أو وسيلة من وسائل السطو على المال العام، فلا يحتجب عن أداء الخدمة ولا يتقاعس في خدمة الجمهور، مثل هؤلاء يملكون هيبة الرجل الكبير القادر على اتخاذ القرار، والقادر على معالجة الاختلالات بثقة واقتدار.
نحن بأشد الحاجة إلى مثل هذا النمط من الشخصيات التي تحمل في ضلوعها قلباً ينبض بحب الأردن، وحب الأرض والشعب، ويحمل فهماً سليماً للدين؛ يجعله فاعلاً في الحياة، متفانياً في خدمة أهله وشعبه، ويسعفه هذا الفهم ليكون أكثر عدلاً وإنصافاً، وأبعد عن المال الحرام، ومثل هؤلاء يقدمون لوطنهم بدأب وإخلاص، لا ينتظرون مدحاً ولا شكوراً من أحد، فهؤلاء يرحلون بصمت، ولا يعرف قدرهم إلاّ من كان على شاكلتهم، ومن يقدر المسؤولية ويدرك ثقل الأمانة، حتى لو كان مخالفاً له في الفكر والمعتقد، أو في الميول الحزبية والسياسية.
نحن نعيش ظروفاً مقلوبة، أصبح الإنجاز وهجا إعلامياً وبحثاً عن الأضواء، وطرباً لأصوات المادحين والمصفقين، ولا تكاد نجد قيمة للعمل البعيد عن مسرح الإعلاميين والصحفيين، والذين يتقنون فن صناعة الروايات وفبركة المسرحيات، وفي نهاية المطاف لا إنجاز ولا تقدم يذكر في أرض الحقائق.
رحم الله عبدخلف داودية، ورحم الله محمد عبدالرحمن خليفة، وعبداللطيف أو قورة، وأحمد قطيش الازايدة، ويوسف العظم، وعبدالله عزام وكل ما شاركهم عبء المسؤولية، وتحمل معهم عناء العمل المضني وكل من سار على نهجهم، وأن يهيئ للجيل الجديد من بقدر الجهد ويقدر أصحاب الجهد.