وُلد في بيت لحم ، وعاش في الناصرة وتلقى البشارة على أرضها في الجليل ، ورحل في القدس ومنها ، وصُلب على أيدي الطغاة ، وبفعل الخونة ، وسجل حضوره كشهيد وداعية ، وكرسول مخلص للإنسان من الأثام ، وعمل على إرساء قيم إنعتاق البشر من الشر والرذيلة ، ذلك هو السيد المسيح ، الشهيد الفلسطيني الأول ، الذي دفع ثمن ما يؤمن به ، على أنه الحق الذي لا يُعلى عليه .
دُقت أجراس الكنائس في مدينة المهد ، بيت لحم ، مؤذنة أن شعبها ، يرفض الإحتلال ويعمل من أجل الحرية ، ويتطلع إلى السلام العادل ، الرافض للخنوع والإستسلام ، المتمسك بوطنه الذي لا وطن له سواه ، مهما تغيرت الأحوال وإستبد الواقع وتأخر يوم الخلاص لأولئك المقيمين على أرض بلادهم ، والعودة لأولئك الذين ما زالوا في مخيمات النفي والشتات والتشرد ، خارج وطنهم .
رسالة السيد المسيح ، في ميلاده ، رسالة شعب فلسطين ، بمكوناته الثلاثة أبناء 48 وأبناء 67 وأبناء اللاجئين ، موحدين في عزيمتهم ، مخلصين لقضيتهم ، مسنودين من أمتهم ومن كل دعاة التقدم والسلام والممسكين برايات العدل ، وتوجهات الشرعية الدولية ، وقرارات الأمم المتحدة ، ولهذا إذا كانوا محرومين من الإحتفال الطبيعي والسوي ، ذلك لأنهم محرومين من حرية الإختيار ، ويفتقدون للحرية ، وتُداس كرامتهم من الطغاة ، فالنصف الأول للشعب العربي الفلسطيني ، على أرض وطنه يعيش الإحتلال ، ونصفه الثاني خارج وطنه يعيش المنافي والشتات ، وكلاهما قضيته واحدة مكملة لبعضها البعض ، الدولة والإستقلال للمقيم ، والعودة وإستعادة الممتلكات للاجيء المنفي ، وغير ذلك تضليل وتدليس وتوهان بعيداً عن الموضوع وتمييعاً للهدف ، وتغميساً خارج الصحن .
الفلسطينييون يحتفلون بميلاد المخلص ، والشهيد ، لأبنهم ، لأنه واحد منهم ، ورسالته من أرضهم للجميع ، وإحتفالاتهم هذا العام إصرار على توصيل الرسالة للجميع ، أنهم أولاً ضد طغاة الإحتلال ومشروعهم الإستعماري التوسعي الإسرائيلي على أرض فلسطين العربية الإسلامية المسيحية ، ولأنهم ثانياً ضد طغاة التطرف من تنظيمي القاعدة وداعش المتغولين على حياة الناس الأبرياء ، على المسلمين قبل المسيحيين ، وعلى السنة قبل الشيعة ، وعلى العرب قبل الكرد وغيرهم ، فالتطرف واحد ، عابر للحدود ، مهما تعددت الأسماء والديانات والمذاهب والأصول ، ومثلما أن قيم البشرية السامية هي ملك لتراثها الإنساني ، لا تفرق بين الدين والمذهب والمعتقد واللون والجنس ، فالتطرف هو نقيض الإنسانية ، وهو عابر للحدود ، كما هو بائن في الواقع ، من العراق إلى سوريا إلى اليمن ومصر وليبيا ، وإلى اللاحدود حتى يصل إلى أستراليا مروراً بالباكستان وأفغانستان وليس إنتهاءاً بإفريقيا .
وإذ يتباهى الشعب العربي الفلسطيني أن أرضه أولى القبلتين ، ومهد الرسالات ، وموطن الإسراء والمعراج وتمازج المؤمنين والتقاة ، لهذا يشتد الصراع فيها وعليها ، لأن فيها ما يستحق التضحية ، وفيها ما يستحق الحياة ، كما قال شاعرها الخالد محمود درويش ، ولهذا كله ، يقف العرب والمسلمين والمسيحيين ، مبتهلين بميلاد الفلسطيني الأول ، وشهيدها الأكبر ، لأن تعود ، عبر العمل والتضحيات ، طاهرة من الطغاة والمستبدين وأن يتوقف تدفق المستعمرين الأجانب إلى أرضها ، كي تبقى لأصحابها وهم الأحق بها ، أهل فلسطين ، المقيمين منهم والمشردين خارجها ، كي تبقى كما كانت موضع إحترام وتقدير من أصحاب الديانات السماوية الثلاثة المسلمين والمسيحيين واليهود ، وفيما بينهم ، لأنهم أصحاب عقيدة واحدة ، وإن إختلفوا في الإجتهاد ، وفي كيفية الوصول بمعتقداتهم إلى ما هو حق وعدل وسمو .
h.faraneh@yahoo.com