انعقد مؤخرا في عمّان مؤتمر الإسكان العربي الثالث بعنوان "مدن سكنية متكاملة الخدمات" في إطار عرض حلول إسكانية جرى تطبيقها في الدول العربية المشاركة. وهو أمر يخص الجميع، المواطن الأردني، والوافد للعمل أو اللاجيء للسكن الدائم أو المؤقت، فما الجديد الذي سآتي به في هذه المقالة، التي تهم الكثيرين.
لقد عرضت مديرة السياسات في المؤسسة العامة للإسكان والتطوير الحضري، هالة جوينات المحطات المختلفة التي مرت بها السياسات الإسكانية في الأردن ابتداءً من سياسة الدعم الحكومي المباشر في العام 1966 وإنشاء بنك الإسكان في العام 1973 حيث إنشئت مناطق سكنية هامة مثل ضاحية الحسين للإسكان، وإسكان ماركا ومدينة أبو نصير وغيرها كثير، قدمت حلول إسكانية ناجحة للمواطنيين، فأين نحن الآن، بعد فشل مشروع (سكن كريم لعيش كريم).
لقد ادى تمركز السلطة في السبعينات والثمانينات بيد مجموعة من البيروقراطيين الذين كونوا لوبيات (سياسية-مالية) سيطرت على القطاعات الصناعية والتجارية والمصرفية، وتمكنت في غياب السلطة التشريعية قبل عودة الحياة النيابية في العام 1989وبعدها، ومن خلال القوانين المؤقتة من إحداث إنعطافة في السياسات الإسكانية، وذلك من خلال الإستراتيجية الوطنية للإسكان 1989 والتي مهدت الطريق للإنسحاب التدريجي من سياسة الإمداد السكني والتي تُوجت بقرار من مجلس الوزراء بالموافقة على برنامج إعادة هيكلة قطاع الإسكان في العام 1996، فما الذي جرى منذ هذا التاريخ.
لقد أطلقت يد القطاع الخاص لتوفير السكن، وليس لنا إعتراض على ذلك من حيث المبدأ، حيث أن التنافس بين العاملين في هذا القطاع قد زاد عدد ونوع المعروض من الوحدات السكنية سواء كانت فلل او شقق سكنية، إلا أن ذلك قد خلق معضلات عديدة نذكر منها ما يلي:
1. التنافس على قطع الأراضي داخل المدن الرئيسية، مما ادى لإرتفاع اسعارها بحيث وصلت الى حوالي 40% من سعر الشقة، وهذه نسبة عالية جداً تُحمّل المواطن في المتوسط (25) ألف دينار إضافية كان من الممكن توفيرها لو اتبعت سياسات المجاورات السكنية Neighborhoods في ضواحي المدن، بدلا من التزاحم على وسطها.
2. الإضرار بالنسيج الحضري Urban Fabric للمدن، حيث إنتشر السكن حيثما وجد موطيء قدم لذلك، بين المصانع والمتاجر وعلى جوانب الطرق الرئيسية، فخسرت المدينة الفصل المرغوب به حسب النشاط، وأصبحنا نعيش في دوامة.
3. إنهيار منظومة النقل العام وتردي البنية التحتية، حيث يصعب السيطرة على مسارات الحركة، وذلك بسبب الإختلاط الشديد في النشاطات التي يمارسها سكان المدينة، مما ادى الى فشل الطرق الدائرية Ring Roads في تفريغ الحركة من مراكز المدن الى الأطراف وتقطعت الطرق الشعاعية وضاقت الطرق الخدمية، لا سيما في ظل غياب المخططات الشمولية Master Plans المصدقة للمدن، وسعي رواد الفكر الإستهلاكي المحموم لإجهاض اية محاولات تخطيطية حقة، فالفوضى تعني التغول والإغتناء في اقصر مدة ممكنة.
4. سعي شركات الإسكان لفرض مزيد من التسهيلات على قوانين وأنظمة البناء، بحيث تزداد النسبة المئوية وتنخفض التهويات بين المباني، وتزداد ارتفاعاتها، كل ذلك ضمن مساحات حضرية محصورة، فالهدف قصير المدى هو الذي يسعى لإنشاء المساكن وبيعها في أقل من سنتين، ومن بعدي فاليأتي الطوفان.
إن خصخصة قطاع الإسكان قد تشكلت بتناغم شديد بين أقطاب البيروقراطية الحكومية والمال، فأصبح المدير العام الحكومي يمهد لوظيفة مستقبلية في شركات التطوير العقاري، وينسج الخيوط ويعدل القوانين والتعليمات لإحكام السيطرة على قطاع الإسكان، فأصبح بنك الإسكان للتجارة والتمويل، منحرفاً عن الهدف الذي إنشيء من أجله في تأمين قروض إسكانية بفوائد منخفضة، وأصبح بنّائي الإسكانات الأذرع الأخطبوطية الذي تمسك بالمواطن وتسلمه للبنك التجاري، فما الذي يحدث هناك.
في البنك، يجلس المواطن مكتوف اليدين، بإنتظار رحمة الموظف الذي يتمقطع به، فارضاً شروط تمويلية إستعبادية تبدأ بتحويل الراتب، وتمر بالكفلاء وبرهن أراضي ورهن العقار المراد شراءه، لدرجة أني اجبرت يوما ما على التوقيع على ورقة بيضاء، وعندما سألته عن السبب قال، إحتياط.
كل ذلك يجري في غياب رقابة حكومية على البنوك، ويشعر المواطن أنه يتيم يجلس على مائدة لئيم، وحتى لو كانت هناك نية للرقابة، فمن من تأتي تلك الرقابة، من نائب أو أمين عام أو حتى وزير مرهون هو الآخر للبنوك، ويكدح لتسديد أقساطها. وستقوم البنوك بعكس الزيادة في ضريبة الدخل عليها الى 35% على المواطن الذي يدفع ضريبة المشتري 6% ورسوم تسجيل وثمن الشقة وفوائد القرض وحصته من الضريبة على البنوك، وضريبة مبيعات على التجهيزات الداخلية، كل ذلك بدون ان يحتصل على إعفاء ضريبي عادل مقابل حمل أعباء توفير السكن الذي تدعمه جميع دول العالم ... إلا عندنا.
إن ما يعيشه المواطن في أول عشر سنوات من تاريخ شراء الشقة هو العذاب بعينه، حيث يوزع ما يتبقى من دخل على بعض الأساسيات، ويدخل في حلقة إضافية من الإقتراض والسُلف، ومن يرى الضوء في داخل الشقق، لا يرى العتمة داخل قلوب ساكنيها.
إن الرقم الرسمي لنسبة سعر المسكن الى الدخل السنوي للأسرة والبالغ حوالي 7% وهو مشكوك فيه، لأن الأسرة تدفع في المتوسع 20% من دخلها على السكن سواء كان مستأجراً أو أقساط تمليك، إن لم يكن هذا الرقم أعلى من ذلك بكثير وخاصة في السنوات العشر الأولى من تكوين الأسر الجديدة.
لقد تطرقت في هذا المؤتمر الدكتورة سوسن المجالي، أمين عام المجلس الأعلى للسكان الى أهمية المسكن للشباب المقبلين على الزواج، حيث يضطر الشباب الى تأجيل تشكيل أسرهم أو أن يمتنعوا عن ذلك عندما لا يستطيعون إيجاد سكن مناسب ضمن مقدرتهم الشرائية سواء كان بالتملك او الايجار، وقد ارتفع سن الزواج الاول عند الذكور في الاردن من 26 سنة عام 1979 الى 30 سنة عام 2012، كما ارتفع متوسط العمر وقت الزواج الأول لدى الإناث من 21 سنة عام 1979 الى 25.9 عام 2012.
وركزت المجالي على ما اسمته بالفرصة السكانية التي تنجم عن تناقص حجم الأسرة، يدخل المجتمع فيها إلى فترة يبدأ خلالها معدل نمو السكان في سن العمل (15-64) بتجاوز معدل نمو الفئات المعالة (أقل من 15 وأكثر من 65 سنة) ولذا لا تتحقق مثل هذه الفرصة إلا إذا تواصل واستدام الانخفاض في معدلات الإنجاب.
وبناءً على الإسقاطات السكانية التي تم تنفيذها، فقد تبين أن الفرصة السكانية في الأردن ستبدأ بحلول عام 2030 حسب السيناريو المنخفض. ومن أبرز التغيرات الايجابية التي تحملها الفرصة السكانية، تراكم وتنمية رأس المال البشري وزيادة الاستثمار الناجم عن زيادة حجم المدخرات، وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، وما يتبع ذلك من تحسن في نوعية حياة الناس عامة. وبصورة عامة، فمن المتوقع أن تدوم الفرصة السكانية لمدة عقدين من الزمن مما يستدعي التحوط لذلك من خلال السياسات الأسكانية، حيث تشير دراسة د. المجالي الى ان الطلب المتوقع على الوحدات السكنية في العام 2030 سيكون 202218 بينما هو الآن بحدود 33000 (حسب أرقام جوينات) أي بزيادة قدرها ستة أضعاف الطلب الحالي على الوحدات السكنية.
إلى جانب الفقر الإقتصادي الذي هو بمتوسط 14% على مستوى المملكة، هناك فقر إسكاني وله خط فقر يحدد بنسبة الاسر التي لا تستطيع تمويل شراء وحدة سكنية بمواصفات الحد الادنى والبالغة 70م2 ، وتشير مؤشرات المؤسسة العامة للاسكان والتطوير الحضري الى ان الاسر التي تقع دون هذا الخط بلغت عام 2008 ما نسبته 53%، واظنها الآن قد وصلت الى أكثر من 60% من السكان.
وبناءً عليه، فلا بد من أن تركز الخطة العشرية القادمة على توفير خليط من الخيارات الإسكانية كما يلي:
• 50% للوحدات السكنية التي يوفرها القطاع الخاص.
• 25% للجمعيات التعاونية الإسكانية والتي تحوز حاليا على (0.1) بالمئة من حصة السوق.
• 25% من خلال توفير الدولة للأراضي المخدومة بالبنية التحتية، وتشجيع فكرة المواطن البنّاء من خلال توفير المخططات النموذجية والإعفاء من الضرائب على مواد بناء هذه النماذج.
إن التحوط لما اسمته الدكتورة المجالي بالفرصة السكانية Opportunity وما اسميته أنا بالتحدي Challenge السكاني القادم، يجب أن يبدأ الآن بدعم المؤسسة العامة للإسكان والتطوير الحضري للعودة الى التخطيط العلمي والبدء بإعداد إستراتيجية عمرانية للمملكة Spatial Strategy التي توجه التنمية بما ينعكس على المواطن للعيش في مسكن لائق يكون الحاضنة لتنشئة جيل منتمي ومنتج، وللحد من إنتشار العشوائيات في المدن والقرى، والتي تشكل البيئة الخصبة للجريمة والأمراض والقلاقل الإجتماعية، فهذه صرخة جديدة ... فهل من صدى لها في صيوان الدولة.