شهد العام الحالي الذي يوشك على الانقضاء، تطورين مهمين على صعيد العملية التحولية التاريخية التي تشهدها المنطقة، بعد حوالي أربعة أعوام من بدء الثورات العربية. إذ بدأ بالتبلور نموذجان واضحان لما يمكن أن تؤول إليه هذه الثورات.
فقد اتبعت تونس أنموذجا تشاركيا شمل فئات المجتمع كافة، فحكمت القوى الرئيسة البلاد بالتوافق، ما أنتج دستورا توافقيا أيضا حظي بدرجة عالية من الرضى الشعبي؛ دستور غلّب الهوية الوطنية التونسية على أي هوية فرعية، وأعطى المرأة حقوقا كاملة غير منقوصة، وثبّت مبدأ التداول السلمي للسلطة، كما برهنت على ذلك الانتخابات الأخيرة؛ البرلمانية والرئاسية. فتم وضع البلاد على خطى ثابتة نحو الاستقرار والديمقراطية والازدهار. في المقابل، تمثل الخيار في سورية والعراق في الحكم الإقصائي المنفرد، وعدم الاكتراث لمكونات المجتمع، وتشجيع الهويات الفرعية، والبطش بالناس لمجرد البقاء في الحكم؛ ما أنتج ثورات ضد الاستبداد، انتهت بظهور قوى متطرفة همجية، ونزوح غير مسبوق، ودمار حسي وثقافي يحتاج عقودا من الزمن لعكسه.
الحكومات العربية اختارت التركيز على النموذج الداعشي، لأنه يخدم المقاربة التي تستخدم الحجة الأمنية المحضة لصرف النظر عن الحاجة إلى مقاربات أخرى مرافقة، تتعلق ببناء الدولة المدنية الحديثة. أما النموذج التونسي، فلا تركيز عليه، لأنه يُظهر نجاعة المقاربات غير الأمنية، ويدحض العديد من الحجج التاريخية المعلّبة ضد الإصلاح، كما يتطلب مقاربات إصلاحية متدرجة وجدية في الوقت نفسه، لا تبدو النية جدية لاتباعها.
ماذا عن العام 2015؟ يبدو أن التطور الأهم سيكون سعر النفط، وتأثيره الاقتصادي والسياسي على المنطقة. فلا يبدو أن برميل النفط سيرتفع فوق 70-75 دولارا في العام المقبل، وقد بدأت أسعار النفط تضغط، وبقوة، على اقتصادات العديد من الدول التي لها تأثير في المنطقة. ومن ناحية، سيكون من الأصعب لروسيا وإيران الاستمرار في دعم النظام السوري بنفس المستويات القائمة، والتي تتجاوز عشرة مليارات دولار سنويا. وبغياب اتفاق على البرنامج النووي الإيراني مع الدول الغربية، سيؤدي استمرار العقوبات الاقتصادية على إيران، مصحوبا بانخفاض أسعار النفط، إلى المزيد من الضغط على قدرة إيران دعم حلفائها في المنطقة. من ناحية أخرى، قد تستمر السعودية والإمارات بدعم مصر، بسبب احتياطاتهما الهائلة، لكن استمرار هذا الدعم لفترة طويلة بنفس المستويات هو أمر مشكوك فيه أيضا إن حافظت أسعار النفط على مستوياتها الحالية.
محليا، هل يخدم هبوط أسعار النفط العملية الإصلاحية، باعتبار أن ذلك يضعف النظام الريعي، ويجبر الحكومة على الاعتماد على الذات؛ أم أن انخفاض المساعدات وحوالات العاملين سيأتيان بمزيد من الضغوط الاقتصادية، برغم انخفاض الفاتورة النفطية؟
التطور الآخر هو ما سيحصل لتنظيم "داعش". وباعتقادي، فإن التنظيم وصل إلى أقصى ما يمكن له تحقيقه من تمدد جغرافي، وأن التحالف الدولي، مدعوما بالقوات العراقية البرية، سينجح في استعادة جزء من الأراضي التي يسيطر عليها "داعش" حاليا في العراق. لكن الوضع يختلف في سورية، حيث لا قوات برية، ولا تعاون مع النظام السوري؛ ما يعني بقاء التنظيم قويا نسبيا في سورية، وبقاء النظام السوري مسيطرا على الجزء الغربي من البلاد، من دون استطاعته إعادة السيطرة على كامل التراب السوري. وإن لم تنجح المساعي الحالية للأمم المتحدة لعقد هدنات جزئية في مواقع متعددة من البلاد، فسيبقى الوضع السوري مرشحا لمزيد من الدمار في 2015 من دون بارقة أمل بإنهاء الحرب.
أما بالنسبة لعملية الإصلاح الداخلي، فيبدو أن الهاجس الأمني قصير المدى سيبقى المسيطر على عملية صنع القرار، من دون وجود خطة منهجية مرافقة للإصلاح السياسي والاقتصادي تتعدى الهوامش. وسيبقى شعار "مش وقته" هو الغالب؛ إذ ما يزال الاعتقاد بأن الإصلاح يمكن بدؤه وإيقافه بكبسة زر، وتبدو الدولة واثقة من أنها تستطيع التحكم بتوقيت ووتيرة وحجم الإصلاح المطلوب.