التقته لأول مرة في مدينة مونبلييه الفرنسية ولم تكن قد التقت من قبل رجلاً أعمى. نظرت اليه بشفقة وهو يعرض عليها أن تقرأ له بعض المؤلفات الفرنسية مقابل أجر. في الشهور التي تلت قامت هي بدورها فقرأت عليه الكثير من المراجع، فوجد في صوتها العذوبة والحنان وكان هذا الصوت يصحبه دوماً فلا يكاد يخلو إلى نفسه في ليل أو نهار إلا وسمع ذلك الصوت يقرأ عليه هذا الكتاب أو ذاك. أمدته بالكتب التي تم كتابتها بطريقة «بريل»، فتفاجأ وهو الذي تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بأصبعه. جعلته ينسى أنه مكفوف وجعلت أجفانه تتفتح على الحياة بدلا من أن يفتحها على الظلمة الحالكة. جعلته يرى الحياة بعينيها فكانت تحدثه عن الشمس حين تملأُ الأرض نوراً وعن الليل حين يملأُ الأرض ظُلمهّ وعن الجبال حين تتخذُ من الثلوجِ تيجانها الناصعةَ وعن الشجرِ حين ينشرُ من حوله الظل والجمال وعن الأنهار حين تجري عنيفة وعن الجداول حين تسعى رشيقة. جعلته يأنس لها ويطمئن اليها وهو الذي لم يكن يأنس إلى أحد ولم يكن يطمئن الى شيء فانعكس هذا عليه فأخذ يطمئن إلى باقي الناس وينفذ إلى ما ورائهم مخترقاً ذلك الحجاب البغيض الذي ضرب بينه وبين الدنيا منذ أول صباه. بدلت من بؤسه نعيماً ومن يأسه أملاً ومن ظلمته نوراً وما زال هو يستمع اليها وهي تقرأ له اللاتينية وتاريخ اليونان والترجمة الفرنسية لمقدمة «ابن خلدون».
قال عنها: «في مونبلييه لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئ بأن مصيري كان يتقرر. منذ أن سمعت صوتها لم يعرف قلبي الألم، بدونها أشعر بأنني أعمى حقاً أما وهي معي فإنني أتوصل إلى الشعور بكل شيء وبأنني أمتزج مع الأشياء التي تحيط بي».
بدأت قصة عشقه لها في مونبلييه ولكنهما افترقا لشهور ثم التقيا مرة ثانية في باريس فاكتشف أنه يحبها حباَ شديداً ولكنه كان يستحي حتى من نفسه فأخفى شعوره ذلك في أبعد ما يمكن أن يستقر من أعماق ضميره. استجمع شجاعته ذات يوم فأخبرها أنه يحبها فردت عليه أنها لا تحمل له شعور ما يسمى بالحب فأجابها بأنه لا يريد لحبه صدى ولا جواب وإنما هو يحبها فحسب.
أقبل الصيف وكان الافتراق، فذهبت هي إلى قريتها في جنوب فرنسا وأقام هو في باريس واتصلت بينهما الرسائل فطلبت منه الحضور كي يمضي الصيف معهم في بيت أهلها. سافر بعد أن وضعه زميله في القطار موصياً من فيه ويمضي طريق القطار طويلاً طويلاً حتى يتوقف فإذا الصوت العذب يدعوه إلى النزول من القطار. خطبها فطلبت من أهلها المشورة، قالت لها العائلة المصدومة: «كيف ذلك فهو غريب وأعمى وفوق ذلك هو مسلم من أعماق صعيد مصر». عمها كان الوحيد من العائلة الذي جلس معه لمدة ساعتين ثم عاد ليقول لها: «لا تخافي من هذا الرجل فهو يستطيع أن يحلق عالياً بالحوار وسوف يتجاوزك باستمرار. بوسعك أن تحققي ما تريدين مع هذا الرجل».
وجدت في شخصه وأدبه وسلوكه ما يتجاوز الحدود والفواصل فتزوجا وهو يحضر رسالة الدكتوراة في جامعة السوربون. رضيت أن تعيش في ظل الرجل الذي أحبته وكرست له كل حياتها. كانت تعطيه ذراعها فتقوده إلى السوربون صبحاً ومساءً ثم تعود به إلى المنزل لتقرأ له من جديد. رزقهما الله بأمينة التي اختلط صياحها بغناء الطيور المستيقظة في الصباح.
كانت تعتني به وتجد اكتمالها بحضوره هو فكان كلما جاء زائر وجده لابساً حليقاً عاقداً ربطة عنقه ومنتعلاً حذاءه اللامع، كانت تقرأ له وهي تحمل أمينة بين ذراعيها ثم يحمل هو أمينة حتى تتفرغ لشؤون البيت.
نال شهادة الدكتوراة من جامعة السوربون عن أطروحته « الفلسفة الإجتماعية عند إبن خلدون « وعن ذلك قال: «صديقتي كانت معلمتي، بفضلها تعلمت اللغة الفرنسية وبفضلها أيضاً تعلمت اللاتينية وبفضلها أخيراً تعلمت اليونانية وتمكنت من قراءة أفلاطون بلغته».
رجعا إلى بلد زوجها، حيث رزقا بطفل أسموه «مؤنس»، وعايشته وهو يصبح مفكراً وأديباً وكاتباً جامعياً ووزيراً للتعليم. عن ذلك قالت: « كنا نعيش في فرنسا على الانتظار ولم تكن الحياة صعبة في بلدي ولكن ماذا عن حياتي في بلد زوجي التي لا أعرفها. هل كنت لا واعية أم كلي ثقة بنفسي؟ الآن أستشعر الخجل المفرط الذي انتابني إزاء هذه السنوات الأربع والخمسين التي عشتها معه. لقد منحني ومنح أمينة ومؤنس كل ما يستطيع القلب أن يمنحه من الحب والحنان واحتمل كل ما مر به بكل صلابة ورأس مرفوع».
قال لها وهو على فراش الموت: « ابقِ ولا تذهبي فسواء خرجت أنا أو لم أخرج من هذه الحياة فستكونين معي دائماً ابقِ معي يا من أحب، ابقِ».
عندما كان يحتضر كانت وحدها فمؤنس في باريس وأمينة في نيويورك فقالت: « كنا معاً وحيدين متقاربين بشكل يفوق الوصف ولم أكن أبكي فقد جاءت الدموع بعد ذلك. كان الواحد منا، قبل أن يتعرف على الآخر، مجهولاً ومتوحداً، وفي هذا التوحد الأخير ووسط هذه الألفة الحميمية القصوى أخذت أحدثه وأقبل تلك الجبهة التي كثيراً ما أحببتها».
بقيت في بلد زوجها بعد وفاته وعاشت لوحدها في الفيلا التي عاشا بها فجاء كتاب «مَعَكْ» باللغة العربية الذي تحدثت فيه عن ذكريات الحب الذي جمعهما.
تقول في كتابها: « أكنت تعرف أنت ما كنت أعانيه عندما كنت تحمل لي واحدا من كتبك صدر أخيراً. لم يكن ما أعانيه زهواً أو مسرة. إن ما كان يقلقني هو الحركة التي كنت تمد لي بها يدك بالكتاب، كانت حركة مرتبكة تقريباً، كما لو أنك تعتذر، كما لو أنك كنت تقدم لي شيئا ضئيلاً جداً، في حين أنك كنت تمنحني أفضل ما لديك وتمنحني ما كان الآخرون ينتظرونه. ما أكثر تواضعك، وما أكثر ما أحببتك وأحبك بسبب هذا. ذراعَيَّ لن تمسك بذراعيك أبدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس. أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين... أريد أن أرى ابتسامتك المتحفظة الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة. آه يا صغيري، يا صغيري الذي لن أعثر عليه أبداً. لقد جعلتني أشعر بقوة لا توصف، هذه هي الهبة التي نَعِمتُ بها طيلة عمري أنا التي وجدتك في طريقي. آه يا صغيري إذا ما دققت باباً سيكون ثمة باب آخر يوماً فهل ستكون وراءه كي تستقبلني».
ماتت سوزان بريسو بعد ستة عشر عاماً من وفاة زوجها عميد الأدب العربي «طه حسين».