إبّان الثورة الفرنسية سمع الناس الصّرخة الشهيرة: أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك، في اللحظة التاريخية الحالية لبلاد العرب علينا أن نصرخ: كم من الجرائم ترتكب باسم استقلالية القضاء.
أيَّة مبادئ وثوابت لاستقلالية القضاء العربي، عبر طول وعرض بلاد العرب، وقضاته يصدرون أشدّ وأقسى الأحكام بحقّ المناضلين السياسيين، ومن بينهم شباب وأطفال صغار، حتّى إذا واجهوا اصحاب سلطة الأمس واليوم من الفاسدين الناهبين المستبدّين اكتفوا باصدار أكثر الأحكام ليونة ورفقا وتسامحا ؟
رحم الله أحد قضاة المحكمة الأميركية العليا، القاضي ثركود مارشال، الذي قال" بأننا، نحن القضاة يجب أن لا ننسى قط بأن المصدر الحقيقي لقوّتنا هو احترام الشعب والناس لنا ".
دعنا ننظر للموضوع ضمن معطيات الواقع العربي، إن الإنسان العربي، خصوصا المهمّش الفقير الضعيف، لا يستطيع الاعتماد لحماية حقوقه وكرامته ورزقه على السلطة التشريعية لأنها ليست معنية برضاه طالما أن تكوينها وانتخابها والخيرات التي ترفل فيها تعتمد على غيره، وهو لا يستطيع الاعتماد على السلطة التنفيذية لأن أغلبها لا يخضع للمساءلة ولا للعقاب، وهو لا يستطيع الارتكان إلى السلطة الإعلامية، بشتى أشكالها، لأنها في أغلبها ملك لأصحاب السلطة والمال والامتيازات، ولأنّها مقيّدة بألف قانون وألف ممنوع.
ما الذي يبقى لهذا الإنسان غير الاعتماد على إمّا سلطة القضاء النزيهة المطبّقة لروح العدالة قبل منطوقها، وامّا مؤسسات مجتمعه المدني ؟ لكن مجتمعه المدني في غالب الأحوال مغلوب على أمره، بعد أن ابتلعته سلطة الدولة العربية في جوفها، وبالتالي يعيش حالة القادر العاجز، لا يبقى أمامه غير سلطة القضاء، وهي الآن مهدّدة بالاختراق بألف صورة وصورة.
مراجعة أدبيات الديمقراطية تظهر أنه في البلدان الديمقراطية تعتمد استقلالية القضاء على وجود سلطات ديمقراطية تسائله وتحميه وتحاسبه، ولذلك فان بعض منظّري الديمقراطية لا يضعون القضاء المستقل حتى ضمن متطلبات الديمقراطية لاطمئنانهم بأن ذلك سيكون تحصيل حاصل في وجود دولة تقوم على فاعلية مؤسسات ديمقراطية، أما عندنا، في بلاد العرب، فان غياب المؤسسات الديمقراطية المتوازنة الفاعلة المستقلّة يجعل من أهمية وجود القضاء المستقل النّزيه حاجة مجتمعية وجودية.
في العصر الحديث عندما يذكر القضاء يشترط توفُّر الشروط الثلاثة التالية:
1. الاستقلالية التي يقصد بها في الأساس عدم الخضوع لأية سلطة أخرى، وعلى الأخص السلطتين التشريعية والتنفيذية، لكن هذه الاستقلالية ستكون مهدّدة إذا كان تعيين القضاة وترقيتهم، واذا كانت منهجية إصدار الأحكام القضائية في يد سلطة خارج سلطة القضاة.
2 . إمكانية حق "التشريع القضائي"، هذا موضوع معقد ويحتاج إلى قضاة لديهم القدرة على استخلاص "قوانينهم " من روح القوانين ومقاصدها الكبرى، بما فيها الدساتير، التي صدرت من آخرين، هنا تأتي حنكة القاضي والتزاماته الأخلاقية ونقاوة ضميره ومدى حرصه على مصلحة المواطن قبل أية مصلحة أخرى.
3 . الطبقة التي ينتمي إليها القاضي، هذا الشرط يرتبط بالاعتقاد بأن متطلبات مصالح الطبقة التي ينتمي لها القاضي ستؤثّر بصورة غير مباشرة على نوع الأحكام التي سيصدرها بسبب تأثيرها في نوع وعمق وعدالة قراءته للقوانين التي يستعلمها لإصدار أحكامه، هل لدينا شكوك بشأن التأثيرات الهائلة التي فرضتها وستفرضها الظروف المحيطة بالقاضي على أحكامه ؟ الجواب موجود في تاريخ العلاقة بين مؤسسات القضاء وخلافة الحكم العربية الإسلامية عبر القرون الماضية، وفي مشاهد صدور أحكام على مئات الأشخاص من قبل محكمة واحدة وفي يوم واحد ، والتي حيّرت المواطن العربي وهزّت إيمانه واحترامه لهذه الجهة أو تلك.
لا الحياة السياسية الرّاكده حلّت موضوع العدالة في حياة العربي المنهك المغلوب على أمره، ولا الحياة السياسية الثورية قدرت على ذلك.
هذه أمّة في محنة ووسائل خروجها من محنها وجحيم حياتها تراوح بين تأتي ولا تأتي، إنه انتظار ممل حزين.