قبل أعوام خلت، كانت لدي قناعة بأننا نسينا أو تناسينا تاريخنا القريب، وقفزنا عن بعض فصوله الأخيرة؛ لنبدو وكأننا عابرون توقفوا للتو على أرض خالية. واستمر النظر للعلاقة بين الإنسان والمكان نظرة جمود وسكون؛ فلا وجود للإنسان في التاريخ القريب، ولا أثر له في المكان.
فمنذ قرون، اختفى أثر الناس على أرضنا، مع أنهم كانوا حاضرين.. فلا وجود لهم إلا في كتابات الرحالة والمستشرقين، وبعض محاولات كتابة التاريخ من قبل من سعوا إلى دخول الميدان لتأصيل قبائلهم، بعيدا عن حركة المجتمع ودينامياته وإنجازاته.
بمشقة بالغة، استطاع الرواة أن يستدعوا سيرة نمر بن عدوان، أو غيره من الفرسان والشعراء الذين أشغلوا المكان بفروسيتهم وشعرهم وشمائلهم؛ فالفاصل بين العدوان والشنفرى يزيد على ألف عام.
في بدايات القرن الماضي، حاول مصطفى وهبي التل أن يذكي في نفوسنا روحاً جامعة؛ فأقسم بماحص والفحيص "قسما بماحص والفحيص... وبالطفيلة والثنية"، ومرّ على وادي السير الذي تمنى أن يكون الوقوف به إجباريّ "ليت الوقوف بوادي السير إجباريّ...". لكننا لم نبن على ما بدأه مصطفى وهبي التل؛ فأسقطنا المكان والإنسان من ذاكرة الزمان!
في كثير من النقاشات التي تدور حول الظاهرة، يرى البعض أن هناك من يسعى أن لا يكون للأمة حضور، لا على صفحات الكتب ولا في الميادين العامة ولا حتى في ذاكرة الناس. فلا حضور للابطال، ولا للقادة المحليين، ولا لأمثلة النزاهة ولمبدعي العمل والإدارة والإنجاز.. في مناهجنا التعليمية وفي ساحاتنا العامة. وكثير من الشباب والأطفال لم يسمعوا بأسماء العشرات من الأبطال العسكريين والشيوخ، ممن مثلوا قيم التسامح والوفاء والقيادة والحكمة، ويذكرهم من عاصرهم بمحبة وتقدير وإجلال.
في البلدات والمضارب الأردنية، لا توجد سير مدونة للرجال والنساء الذين استوطنوا الأماكن، وأكسبوها طبيعتها وخصوصيتها. فمعظم ما يتداوله الناس عن تاريخ بلداتهم وموطنهم لا يتجاوز كونه قصصا مجتزأة، تم تحريف الكثير منها لغياب الاهتمام بالتدوين والتوثيق والتحقق.
حتى الأسماء التي تبدو على شوارع المدن ونواصي الميادين العامة لشخصيات قيل إنها أسهمت في الأعمال والإنجازات الجليلة، تم اختيار الكثير منها على أسس أضاعت المقاصد من فعل الإحياء والتخليد.
ففي الحالات التي حاولنا من خلالها استذكار البناة والروّاد، بأن نطلق أسماءهم على شوارع مدننا وميادينها العامة، ضمّت القوائم التي أعدتها المجالس المحلية أشخاصاً لا تبرر سيرهم وجودهم على هذه القوائم، مما أضاع المقاصد والغايات التي تقف وراء هذا التمرين الوطني. إذ أدى غياب أسس الاختيار إلى تولد سباق محموم بين أعضاء كثير من المجالس المحلية على ترشيح أسماء آبائهم وأنسبائهم وأقربائهم ليكونوا ضمن القوائم، والتي كان الغرض منها إشهار وتخليد ذكرى صنّاع المجد وزرّاع الحياة.
إن من غير المعقول أن لا يعرف طلبة مدارسنا شيئا عن سيرة اللواء أحمد علاء الدين، والفريق مشهور حديثه، والقاضي موسى الساكت، والأمين محمد القرعان، والشيخ عودة أبو تايه، والمؤرخ عبدالكريم الغرايبة، والشهيد صالح الشويعر، والشاعر حبيب الزيودي، إلى جانب وصفي التل وحابس المجالي وحمد بن جازي ومثقال الفايز وسعود القاضي.. وغيرهم وغيرهم.
من المهم أن تشتمل كتب التاريخ على إنجازات ومواقف وأفكار وإسهامات نساء ورجال الأردن، وأن نتوقف عن التسلية بفضائح الفساد والمحسوبية والمناكفة. فهناك رموز لا تظهر أسماؤهم في العناوين، لأنهم لم يدخلوا في سباق الكسب والثراء والنفوذ الذي لا تحكمه غير قواعد الغاب.
الظاهرة تتنامى. والإهمال لذاكرة أمكنتنا ورجال ونساء مجتمعنا وإسهاماتهم، قضية مقلقة، ينبغي أن لا يُسكت عنها. وجامعاتنا المنتشرة على طول البلاد وعرضها، مدعوة لأن تطلق مشروعات تعنى بقراءة شخصية المكان وصناع هويته، ورموز العطاء والإنجاز. وللمشروع أهمية تتجاوز إنعاش ذاكرة الأجيال بماضيهم، إلى بناء الروح المعنوية للأمة، ودفع أعضاء مجتمعاتنا لأن ينقشوا آثار خلودهم على جدار الزمن. وربما أن لتناسي وتجاهل الرموز أثر على ظاهرة تدني اهتمام الكثير من المواطنين بالشأن العام، وترك الساحة لمئات من الانتهازيين والمتكسبين وتجار الوطنية والولاء.
في كل بلدة أردنية، هناك أناس أسهموا في صناعة تاريخ المكان والأمة، بقيمهم وأخلاقهم وعطائهم وإبداعاتهم التي عرفها معاصروهم، وينبغي أن تكون إرثا لخلفهم ومجتمعهم. فالأماكن ليست مباني وشوارع وبساتين، وإنما هي قيم وأفكار وبناء وتضحيات، قام على إنجازها رجال ونساء غابت أجسادهم، لكن بقيت آثارهم، ونحتاج إلى سيرهم ليكونوا مثلا لنا في الصبر والكفاح والعمل المنتج.
في الزمن الصعب، هناك المئات من البناة الذين حافظوا على كرامتهم وكبريائهم وحريتهم، وبقوا بعيدين عن دوائر الضوء وصالات المزاودة والتنظير ودهاليز ترتيب الصفقات. ومخطئ من يظن أن الناس لا يعرفونهم، وأن الأمة لا تقدر أبطالها، ولا تعرف رجالاتها.