الكتابة في وسيلة إعلام منتشرة ترضي شيئاً في الذات. إنها تتيح لصاحبها التفاعل مع أناس رائعين في الغالب، ممن يستقبلون مداخلته، ويعقبون عليها -موافقة أو اختلافاً- ويتولد احترام جميل متبادل. والكاتب يقترح فكرة أو يقرأ شيئاً في موضوع عام، ويحاول أن يسند أطروحته من واقع خبرته واطلاعه. والرأي معرّف بلفظته؛ "رأي"، ولذلك يخطئ صاحبه ويصيب. ولا أجمل لكاتب الرأي من تفاعل المحاورين الواعين مع فكرته: تصحيحاً؛ أو تذكيراً بمعلومة فاتته، أو حتى عرضاً لرأي نقيض مسنود بأسانيده، في إطار الحوار الحضاري المهذب. لكن ما يدهش المشتغلين بهذا النشاط -كما أتصور- يكون نوعية وكم الردود أو التعقيبات التي يرسلها البعض، لا لتقول أي شيء سوى إهانة الكاتب أو صاحب المادة الإعلامية، بل والتفنن في اختيار أقذع الشتائم وأكثرها حطاً للقدر. ومع كل حرص المواقع الرسمية على "فلترة" هذه المداخلات -بسبب طبيعتها العدوانية فقط- فإن بعضها يفلت.
في الأساس، يجتهد الكاتب للعثور على فكرة تكون جدلية، يمكن أن تثير حواراً وتستدرج وجهات نظر ورؤى. وبالتعريف، ستكون هذه من نوع الأفكار غير المألوفة التي يجب أن تشيع حركة في الماء الراكد. لكنه كثيراً ما يبدو أن اقتراحا جديدا يستنطق "قناعة" مستقرة ويضيئها من زاوية أخرى، يثير عش دبابير عنيفا. سيصبح المجدد مهرطقاً وخارجاً على الملة، وستستفز مداخلته كل عدائية العقل المعادي للاستنطاق والاقتراح. في بعض الأحيان، كنتُ أنظر بإعجاب إلى الزملاء الذين يجرأون على الأفكار الجديدة في مقالاتهم، لتتحول عاطفتي سريعاً إلى الإشفاق -ليس بسبب الآراء المخالفة، وإنما بسبب التعبير عن الاختلاف بكلام ليس له رأس وقدمان، وإنما هو شتائم وإهانات يتم اختيارها بحيث توجع أكثر ما يكون. وبمعرفتنا بأن مقالات الرأي في إعلامنا تخضع لطبقات من الرقابة قبل النشر، فإن "الرأي" بهذه الشروط يكون متحفظاً سلفاً فيما يستهدف الأشخاص بأشخاصهم. فكيف لا تسلم، حتى الآراء بهذه الشروط، من هجمات شخصية على أصحابها، وكأنه ليست لهم كرامة يغارون عليها؟
من المتعذر ذكر أمثلة على هذا النوع من التعليقات بألفاظها المعيبة. ولأن بعضها يُرفع على حوائط مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تمكن زيارة ملفات أصحابها، فإنها تظهر في ملف صاحب "الرأي" خلفياته وماهيته، وعلى أي مرتكزات يقيم "ميزانه". في بعض الأحيان، يكون غضاً بعد، فيأسف المرء لاحتمال أن ينشأ على هذه الطريقة في "الحوار" مع كاتب أو غيره. لكنه يكون في بعض الأحيان راشداً له عمل وأسرة، فيأسف المرء أيضاً لحال رعيته وأي طريقة في التفاعل يتعلمون، وبأي لغة "يحاورون".
سوف يكون الانطباع الأول لدى الكاتب عند التعرض لهذه الأنواع المهينة من التعليقات، هو الشعور بالإهانة والقهر -مثله مثل أي كائن آخر. لكن الخاطر الأكثر إيلاماً بعد الفورة الأولى، هو فداحة الظاهرة كلها جميعاً: أن يتخذ الاختلاف في الرأي -الذي ينبغي أن يكون صحياً وبناء- مظاهر العداء والحقد والشتائم والشجارات، ذهاباً إلى القتل السهل أحياناً (كما يحدث في مشاجرات الشوارع والجامعات والقبائل)، بل والحروب الأهلية كما نرى. في هذه الصورة القاتمة الأوسع، لا تعود مهمةً طريقةُ "الحوار" الجارحة في التعليق على مقال. لكن الذي لا يهون هو تضخم هذه الطريقة في التبادل وانتشارها، لتصبح نمطاً "ثقافياً" جامعاً وممارسة يومية، بل وثقافة تتناقض تماماً مع فكرة فولتير النورانية: "قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك"!
مَن الملوم؟ المعلمون وأرباب الأسر والواعظون والساسة والإعلاميون، وكتاب مقالات الرأي أنفسهم. وربما هو المفهوم الغامض/ الواضح الذي ينجب كل علة: النظام الاجتماعي والسياسي والتربوي والفكري والاقتصادي المعتل كله، والذي يفقد الناس عقلانيتهم ويسلمهم إلى العصبية المتطرفة. لذلك أصبحوا يصفون منظومتنا العقلية جمعياً بلفظة مؤلمة: التطرف. والتطرف طباق عقل يكره الحلول الوسط ومقابلة الآخر في وسط الطريق. الكل يقول: "أنا صاحب الحقيقة"، ويريد إخضاع المختلف، بالسباب والتسفيه على أقل تقدير، وبالسيف والبندقية في نهاية المطاف. أما الغائب الذي عزّ وجوده، والذي يصنع غيابه التعليق الشائن على مقال، ولا ينتهي بخراب الأمم كما نرى، فلخصوه بكلمة: التعددية!