بعد أكثر من شهر من النشاط السياسي والإعلامي المحتدم في الأردن حول أولويات الإصلاح السياسي وأدواته ، والذي تمثل في العديد من المسيرات المنظمة والاعتصامات المهنية والفئوية والمقالات والبيانات والتصريحات والمقابلات الصحافية من قبل النشطاء السياسيين ، تم طرح الكثير من الافكار والتوجهات المختلفة حول خيارات الإصلاح السياسي ولكن نقول بأن هذا النمط لم يرتق بعد إلى مستوى الحوار المنظم والذي يمكن أن يصل إلى نتيجة وخطة عمل واضحة المعالم وتوافق على ملامح وأهداف الإصلاح المنشود.
بانتظار لجنة الحوار الوطني والكيفية التي ستعمل من خلالها ، نشعر بأن السيطرة على ساحة النقاش الإصلاحي لا زالت بيد التيارات السياسية المؤدلجة (إسلاميين ويساريين وقوميين) وبعض القوى السياسية المستجدة (لجان المعلمين وشباب من أجل التغيير والمتقاعدين العسكريين) إضافة إلى مجموعات مختلفة ذات طابع اجتماعي تقوم بإصدار بيانات وكل واحدة من هذه الجهات تبدأ طروحاتها بجملة "الشعب يريد..." في منافسة واضحة على احتكار الرأي العام. وفي المقابل لا زال الموقف الحكومي غير واضح المعالم ويعتمد على مبادئ تم طرحها في البيان الوزاري وبعض التصريحات التي تمثلت في ردود أفعال غير تفصيلية على بعض الاقتراحات والقضايا التي تتم مناقشتها حاليا مثل الملكية الدستورية وغيرها.
وفي خضم هذا الوضع ، تبقى العديد من الجهات والقوى الأخرى من مكونات المجتمع الأردني صامتة بطريقة غريبة ، وقد أشرنا في مقال سابق إلى أن فئة مهمة من الشباب غير المؤدلج لا زالت غير قادرة على الدخول المؤثر إلى ساحة النقاش الوطني بالرغم من وجود آراء وطروحات متقدمة جدا وتمثل حلولا مفيدة للتحديات الماثلة أمام الدولة ، ولكن الصمت أيضا لا يزال سمة المؤسسات الأكاديمية والبحثية ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص والتي تضم الآلاف من الأشخاص أصحاب الخبرة والمعرفة والذكاء والذين يجب أن يضيفوا إلى ثراء النقاش العام في البلاد ولا يتركوا الساحة للقوى المؤدلجة سياسيا فقط.
على سبيل المثال ، من المهم أن نسمع آراء المختصين في القانون الدستوري حول ما يقال عن تعديلات دستورية وحكومات منتخبة وملكية دستورية وكيف يمكن الوصول إلى هذه المراحل في حال تم التوافق عليها ، كما من المهم الإستماع إلى آراء المؤرخين والسياسيين والأكاديميين الكبار ممن ساهموا في بناء الدولة وهم يعملون بشكل مستقل عن التجمعات السياسية لان مواقفهم تكون عادة محكومة برؤية محايدة وبالتالي شمولية نحتاج إليها بشكل كبير حاليا. هذا ما يطرح أيضا التساؤل حول غياب مراكز الأبحاث الإستراتيجية الموجودة في كافة الجامعات الأردنية عن النقاش السياسي الحالي وعدم إصدار ولو ورقة موقف واحدة تتعلق بجزئية ما من ملف الإصلاح السياسي والاقتصادي فإذا كانت هذه المؤسسات وباحثيها لا تتحرك الآن في هذا المناخ النشط من التفاعل السياسي وارتفاع سقف الحريات العامة في التعبير فمتى تتحرك إذن؟ نفس الأمر ينطبق على العشرات وربما المئات من مؤسسات المجتمع المدني مثل منظمات حقوق الإنسان والتنمية السياسية والمرأة والإعلام وغيرها والتي تتنافس على التمويل الأجنبي وعلى عقد المؤتمرات ولديها ثروة هائلة من المصادر والدراسات ولكنها حتى الآن لم تساهم إلا بقدر ضئيل جدا في النقاش الوطني حول الإصلاح وتبقى وكأنها في برج عاجي بعيدة عن المجتمع وعن أولويات النقاش الدائر حاليا. أما ثالث الجهات التي تبقى صامتة بدون مبرر فهي مؤسسات القطاع الخاص ومراكزها الإستراتيجية والتي يجب أن تتدخل بقوة لإبداء رأيها تجاه المستجدات السياسية والاقتصادية خاصة أننا نشهد الآن حالة من "شيطنة" القطاع الخاص وتحميله مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية والدعوة إلى تحولات اقتصادية عميقة تعود إلى دور دولة الريع التي كانت سائدة في السبعينات والثمانينات ، ومن المهم أن يطرح القطاع الخاص رؤية استراتيجية تجاه هذه التحولات خاصة أن القطاع الخاص هو الجهة التي سوف تتحمل مسؤولية تأمين الوظائف في السنوات القادمة في ظل عجز الموازنة العامة والذي سوف يتزايد نتيجة الحاجة السياسية لإرضاء الفئات التي تتزايد مطالبها من الدولة.
إنها فترة استثنائية في تاريخ التحولات السياسية والاقتصادية في الأردن وهذا نداء لكافة مكونات المجتمع الأردني للمشاركة وعدم ترك الساحة للأحزاب الايديولوجية وأصحاب الصوت العالي ، فكلنا شركاء في مستقبل البلد.