يوم الخميس الموافق 11 /9 /2014، أقر مجلس الأمة بغرفتيه، النواب والأعيان، مشروع قانون يعطي كل واحد من أعضائه أكمل خدمة سبع سنوات في الوظيفة العامة، راتباً تقاعدياً مدى العمر؛ محسوباً على أساس الراتب الأساسي الذي يتقاضاه الوزير العامل في الدولة. وقد انطلق مجلس الأمة في ذلك من أن ما يحصل عليه عضو المجلس ينطبق عليه وصف الراتب الذي يخضع للتقاعد، وقرر إعطاء أعضائه راتباً تقاعدياً انطلاقاً من ذلك. وأعتقد جازماً أن مشروع القانون في هذا المجال يخالف الدستور نصاً وروحاً، استناداً إلى ما يلي:
أولاً: مخالفة نص الدستور:
1 - تنص المادة (52) من الدستور على أن "الوزير الذي يتقاضى راتب الوزارة لا يتقاضى في الوقت نفسه مخصصات العضوية في المجلسين" (أي مجلس الأعيان ومجلس النواب).
ووفقاً لهذا النص، فإن دستورنا يفرق بين مفهوم الراتب وبين مفهوم المخصصات. إذ لو كان مدلولهما واحداً، لما استخدم آباء الدستور في النص هذين الاصطلاحين. فالراتب هو مبلغ دوري متكرر يدفع لشاغل وظيفة أو مركز قانوني على وجه الاستمرار، وتحكمه نصوص تحدد مقدار هذا الراتب، وكيفية احتساب التقاعد على أساسه، وما يستحقه من علاوات، وفقاً لطبيعة عمل تلك الوظيفة أو المركز، وما تقتضيه من تكريس لكامل ساعات العمل اليومي لها، وعلى نحو يمتنع عليه تخصيص أي من وقت تلك الوظيفة لأي عمل وظيفي أو مأجور آخر. أما المخصصات، فتتمثل في مبلغ مالي مقطوع، يشكل مكافأة لقاء عمل يقوم به من تُصرف له، من دون أن يشترط التفرغ لهذا العمل، أو الانقطاع له، أو الاستمرار فيه. و"المخصص" هنا يُدفع لقاء العمل فحسب، وليس لشاغل مركز وظيفي، حتى ولو أخذ دفع "المخصص" طابع الدورية والتكرار. ولذلك، فإنه لا يجوز بأي حال تغيير الطبيعة الدستورية لـ"المخصص" الذي يُقدّم لعضو مجلس الأمة، وإعطاء هذا "المخصص" صفة "الراتب" من أجل إخضاعه للتقاعد. وهذا ما كان يجري عليه العمل قبل إدخالنا في أنفاق حكم الأشخاص بدلاً من حكم القانون، ثم تغيير نظام الصوت الواحد للقيم المجتمعية والسلوكية، وانحدار المفاهيم السياسية لما يدخل في إطار المصلحة العامة.
2 - يقطع بما نقول عن التفرقة بين "الراتب" و"المخصصات"، المصدر التاريخي لنص دستورنا؛ إذ من المعروف أن من بديهيات قواعد التفسير الرجوع إلى الأصل التاريخي للنص عند الحاجة لمعرفة مدلوله.
والمصدر التاريخي لدستورنا هو عائلة النظام البرلماني التي نشأت في أوروبا. ودساتير هذه العائلة تفرق بين "الراتب" وتطلق عليه اصطلاح (Salary)، وبين اصطلاح "مخصص" وتطلق عليه (Allowance)؛ أي مبلغ مالي مقابل الوقت المبذول في العمل (Time spent for work) أو (Indemnity) أي مبلغ تعويض مقابل عمل (Fee for service)، أو (Remuneration) أي تعويض عن العمل (Payment for Work). ومدلول هذه الاصطلاحات هو ذات مدلول "مخصصات" الذي استخدمه آباء الدستور الأردني في المادة (52).
من ناحية أخرى، فإن دول البرلمان الأوروبي الثماني عشرة التي تستخدم الاصطلاحات السابقة، لا يعطي دستور أي منها راتباً تقاعدياً لمجرد العضوية في المجلس التشريعي فيها، أو حتى لمجرد العضوية في البرلمان الأوروبي، وذلك على الرغم من الإمكانات المالية الكبيرة لدول أوروبا، والتي لا تقارن بها الحال في الأردن؛ وإنما يحصل عضو البرلمان عند انتهاء عضويته على مكافأة عن كل سنة من السنوات التي أمضاها في عضوية البرلمان، وبعض الدول تجعل هذه المكافأة مخصص شهر واحد عن كل سنة، وبعضها مخصص شهرين.
وسبب النهج الذي تجري عليه دول أوروبا في موضوعنا، هو أن البرلمانات لها دورات انعقاد في السنة، تتفاوت حسب الدول، ومعظمها بين ثلاثة أشهر أو أربعة؛ وجلساتها لا تتعدى الساعتين لمرتين في الأسبوع. أما باقي الوقت، مضافاً إليه مدة الأشهر الأخرى من السنة التي لا ينعقد فيها المجلس، فيخصصها عضو البرلمان لمهنته أو تجارته أو أعماله الخاصة التي تشكل دخله الحقيقي. ووفقاً للمفاهيم والقيم التي تحكم عمل مجالس البرلمانات، فإن التنافس على عضويتها لا ينطلق بأي حال من حرص على الانتفاع أو التكسب من دخل العضوية، وإنما من حرص على أداء أرقى خدمة عامة، تتمثل في وضع التشريعات التي تحكم حاضر الوطن ومستقبله.
أما الدستور البلجيكي الذي يشكل المصدر المباشر لدستورنا، فهو يُطلق على ما يتقاضاه عضو المجلس مسمى "Allowance" أو "Indemnity"، وبموجبه يستحق العضو مكافأة سنوية عن عمله، يتم تقسيمها على 12، لمعرفة مقدار المخصص الشهري الذي يُدفع له. وفوق ذلك، فإن لهذا العضو حق استخدام المواصلات العامة من دون مقابل، ويحدد المجلس مقدار المبلغ الذي يتم اقتطاعه من المكافأة لغايات المساهمة في الصندوق الخاص بادخار الأعضاء عند قيام ضرورة لوجود مثل هذا الصندوق. أما ما يحصل عليه عضو المجلس الذي لا يعود في الانتخابات اللاحقة، أو تنقطع صلته بالبرلمان، فهو مكافأة مقدارها مخصصات شهرين عن كل سنة من سنوات عضويته، بحد أقصى 48 شهراً.
3 - وفي الأردن، فإن المشرع الدستوري عندما جعل صيغة المادة (52) على نحوٍ آمر، في التفرقة بين راتب الوزير ومخصصات العين أو النائب، راعى الاعتبارات السابقة؛ من حيث تفرغ الوزير للعمل الوزاري على نحوٍ كامل، وامتناعه عن القيام بأي عمل آخر، وذلك على خلاف عضو مجلس الأمة. ولذلك، فإن مجلس الأمة الذي أقر مشروع قانون يحابي فيه أعضاءه، عن طريق إلغاء الطبيعة الدستورية لاصطلاح "مخصصات" الواردة في المادة (52) من الدستور، وإحلال اصطلاح "راتب" مكانها، يكون قد خالف الدستور حتماً.
وقد كان على أعضاء المجلس، نواباً وأعياناً، التفكير ملياً في أحكام الدستور الذي أقسموا اليمين على احترامها، أو على الأقل، أعطوا لأنفسهم فرصة لدراسة المذكرة التي تقدم بها في حينه دولة الأستاذ سمير الرفاعي، ونبّه لحكم المادة (52) من الدستور، وما تضعه من تفرقة بين "الراتب" و"المخصصات"، على نحوٍ لا يسمح بتشريع أعضاء مجلس الأمة للقانون. لكن يبدو أن حماس نسبة مؤثرة من السادة الأعضاء لمحاباة الذات، صرفت أنظارهم وأذهانهم عن ما يحرّمه الدستور عليهم، فظهروا أمام شعبهم وكأنهم أصحاب سلطان مطلق لا ترد عليه قيود أو حدود، مما أثار حفيظة هذا الشعب ضد تصرفهم.
ثانياً: مخالفة روح الدستور:
1 - حرص الدستور الأردني على منع أي احتمال لقيام عضو مجلس الأمة باستثمار مركزه أو الانتفاع منه، عن طريق التعاقد مع الحكومة أو مؤسسات الدولة، فأورد نصاً آمراً لرفع شبهة الانحراف ومحاباة الذات عن تصرفات عضو المجلس وسلوكياته، وجعل من قيام هذه الشبهة خلافاً للنص، سبباً في إسقاط العضوية من المجلس، سواء بالنسبة للنائب أو العين. فقد نصت الفقرة الثانية من المادة (75) من الدستور على أنه "يمتنع على كل عضو من أعضاء مجلسي الأعيان والنواب أثناء مدة عضويته التعاقد مع الحكومة أو المؤسسات الرسمية العامة أو الشركات التي تمتلكها أو تسيطر عليها الحكومة أو أي مؤسسة رسمية عامة سواء كان هذا التعاقد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ...".
وأضافت الفقرة الثالثة من المادة (75) نوعية الجزاء الذي يترتب على مخالفة الحكم، عندما أكدت على أنه إذا خالف أي من أعضاء المجلس الفقرة (2) سابقة الذكر: "تسقط عضويته حكماً ويصبح محله شاغراً".
وعلى هذا، فإذا كان الدستور قد اعتبر أن تعاقد عضو مجلس الأمة مع الحكومة أو مؤسساتها الرسمية، ينطوي على شبهة محاباة لذاته، واستثمارٍ لمركزه من أجل تحقيق مغنمٍ أو فائدة مالية، فمنعه بنص آمر لتجنب الشبهة، فمن باب أولى أن يمتنع على عضو المجلس أن يستثمر مركزه، ويشرع قانون تقاعد يحابي فيه ذاته، على نحوٍ يتجاوز الشبهة إلى اليقين. وحتى لو أراد المجلس أن يشرع قانوناً من أجل تحسين الوضع المالي للأعضاء، فإن القانون ينبغي أن يسري على المجلس اللاحق، وليس على من شرعه، وهذا ما يجري عليه العمل في جميع دول العالم التي تحترم شعوبها.
2 - بالرغم من أن مجلس الأمة يشكل السلطة التي تشرّع القوانين، إلا أن صلاحيات هذا المجلس لا تمتد إلى الحدود التي يشرع فيها لمصلحة أعضائه، ويدخل إلى منطقة الانحراف بالتشريع كما حدث. فلو كان ذلك مباحاً تحت مقولة ولاية المجلس في التشريع، فماذا يمنع الأعضاء، مثلاً، من إصدار قانون يحابي أبناءهم وأحفادهم، اعتماداً على أنه لو رد الملك هذا القانون خلال ستة أشهر، وعاد إليهم، فمن حقهم الإصرار عليه، وبعد ذلك يصدر من دون حاجة لموافقة الملك؟!
3 - قد يقول قائل إن ما جرى عليه العمل بالنسبة لما يتقاضاه أعضاء مجلس الأمة، وما أصدره من قوانين بهذا الخصوص، يشكل عرفاً دستورياً واجب التطبيق. فإن حدث ذلك، فإن الخطأ يكون قد بلغ مداه، لأنه لا يعلم أن مخالفة النصوص الآمرة سابقة الذكر، لا تشكل عرفاً دستورياً مهما طال الزمن على تلك المخالفة.
أدرك جيداً أن الأوضاع المالية للعديد من أعضاء مجلس الأمة ليست مناسبة، لكن معالجة هذه الأوضاع وتحسينها، ينبغي أن لا يكون عن طريق مخالفة الدستور.
ثالثاً: الرد الملكي لمشروع القانون:
أما عن رد مشروع القانون من قبل جلالة الملك، فقد تناولت الرسالة الملكية الموجهة إلى دولة رئيس الوزراء بتاريخ 15 /9 /2014، أمرين:
الأول: ورد في الرسالة الملكية أن الجدل الذي أُثير حول المشروع، يشير إلى احتمالية وجود شبهة دستورية حوله، مما يستدعي الوقوف على رأي المحكمة الدستورية بهذا الخصوص.
ومن وجهة نظر دستورية، فإنني أعتقد جازماً، في ضوء ما أسلفت، أن مشروع القانون يخالف الدستور نصاً وروحاً. لكن الحكومة لا تستطيع إرسال مشروع القانون إلى المحكمة الدستورية للسؤال عن مدى دستوريته، لأن رقابة المحكمة تقتصر على نظر الطعن بعدم دستورية قانونٍ نافذ، أي أن رقابتها لاحقة، وليس لها رقابة سابقة على مشروع القانون قبل إصداره ليصبح قانوناً. والخيار المتاح للحكومة هنا، هو أن تسأل المحكمة عن تفسير نصوص دستورية معينة من أجل أن تعرف إن كانت هذه النصوص الدستورية تسمح بإصدار قانون في موضوع معين أم لا. وأعتقد أن المادتين (52) و(75) من الدستور ينبغي أن يكونا محلاً لطلب التفسير الذي ستتقدم به الحكومة إلى المحكمة الدستورية في موضوعنا.
الأمر الثاني: أن الرسالة الملكية تنطوي على تجاوب من الملك مع الرفض المجتمعي لمشروع القانون، عندما حددت الرسالة عناصر هذا الرفض، لتشكل أسباباً دستورية لرد المشروع، وفقاً للمادة (93 /3) من الدستور. وهذه الأسباب هي: افتقار مشروع القانون إلى "أعلى درجات العدالة والشفافية والموضوعية"، وأنه لم "يعالج التشوهات التي تضغط على موارد الدولة والاختلالات غير المنصفة"، وأن من الضروري إعادة دراسة مشروع القانون "دراسة شاملة وموضوعية، وصولاً إلى حلول واقعية وعادلة... تأخذ بالاعتبار الظروف الاقتصادية الصعبة التي نمر بها".
إن استقراء الرسالة الملكية لعناصر الرفض المجتمعي لمشروع القانون بالوضوح السابق، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن الخلل عندنا يكمن في الأشخاص والنهج، وأنه هو الذي يحتاج إلى العلاج.
بتاريخ 26 /9 /2013، وضعت دراسة نشرتها "الغد"، عنوانها "السلوكيات والتشريع لمصلحة الذات ما بين نواب وأعيان"، واقتبستها العديد من مواقع الصحافة الإلكترونية، فضلاً عن الصحف العربية. وقد نبهت في هذه الدراسة إلى أهمية التفرقة التي نص عليها الدستور بين "الراتب" (Salary) وبين "المخصص" (Allowance)، وأنه لا يجوز مخالفة الدستور واعتبار المخصص راتباً. وقد كان ما كتبت ونشرت، نصيحة موجهة في حينه إلى السادة أعضاء مجلس الأعيان، استحثّهم فيها على عدم الموافقة على مشروع قانون تقاعد مماثل تبنّاه السادة النواب. ومثلي لا يملك سوى صوت ناصح للالتزام بحكم الدستور والتنبيه لخطورة الخروج عليه. أما الآن، فإن أكثر ما يحزن، بل ويؤلم، هذا الذي نسمعه ممن يجعلهم الدستور بواكيه، من تعلّلٍ باتفاقات جرت خارج المجلس مع حلقات في الدولة على إصدار القانون، ذلك أن هذا العذر ينطوي على اتفاق على مخالفة الدستور، وهو ذنب أكثر بكثير من ذنب ما فعله المتعلّلون.
لن يجدي في هذا المقام أي لوم أو عتاب لأحد، لأن ما حدث هو محصلة لنهجٍ استأثر فرسانه بالماضي كما استأثروا بالحاضر، ونخشى أن ينقضّوا على المستقبل ليستأثروا به أيضاً. وأعتقد أننا أصبحنا في أمس الحاجة إلى مراجعات كثيرة وكبيرة، تؤدي إلى حلول جيل جديد يؤمن بالعطاء من دون انتظار لمردود.