هل ثمة فرق بين اقتحام سجن أنصار في جنوب لبنان أو اقتحام مقرات أمن الدولة في مصر وتونس؟ هل شعر المواطن أن مؤسسة وطنية تتعرض للانتهاك، أم أنه يشعر بتحرير ثكنة معادية ذاق منها ما لم يذقه من العدو الأجنبي؟ لا أنسى مشهد مقر الأمن في حي التضامن في العاصمة التونسية؛ من شدة غضب الناس على "الأمن" لم يكتفوا بحرق المقرات، بل حطموا جدرانها وبلاطها.
كنت أعد تقريرا عن المراقبة الإدارية للسجناء بعد الإفراج عنهم في بنزرت، عندما قررت الحكومة التونسية حل جهاز أمن الدولة. وهو ما يشكل خطوة أولى في إنصاف ملايين التونسيين الذين تضرروا بشكل مباشر وغير مباشر من تلك الأجهزة التي لم تكن لها وظيفة غير حماية العصابة الحاكمة من خلال تدمير حياة أحرار تونس.
اعتمدت بشكل أساسي على التقرير الذي أصدره مناضلو التحالف الدولي لدعم المساجين السياسيين في تونس العام الماضي. وهو يرصد فظاعات لا تخطر على بال بشر. فانتهاك حقوق الإنسان يفترض أن ينتهي بخروجه من السجن أو خروجه من الدنيا. في ظل نظام بن علي كانت الانتهاكات تتفاقم بخروج السجين من السجن، ولا تنتهي بوفاته، وتمس كل من له علاقة به.
في بنزرت تفوق مأساة عبدالرزاق بربرية مأساة البوعزيزي. وهي تفسر أن الثورة لها شروط تكتمل في لحظة تاريخية. بربرية من مناضلي حركة النهضة، أمضى خمس سنوات في السجن. لم يكتف نظام بن علي بالتعذيب في السجون، وإهانة زوجته ووالده في غضون الزيارة والحرمان منها.
بعد أن أفرج عنه، تولى جهاز الأمن مهمة التنكيل به بطريقة منهجية مدمرة. كانت المراقبة الإدارية تقتضي التوقيع ست مرات في اليوم. في أثناء التوقيع يقف على الباب ويتعرض للصفع والضرب والإهانة، أو يطلب منه المغادرة والعودة بعد نصف ساعة تحت حر الشمس، ويمنع من الانتظار في مكان قريب. في الأثناء تتعرض العائلة والأطفال للترويع المستمر من خلال المداهمة الليلية. صبر عبدالرزاق على كل ذلك. ما لم يصبر عليه عندما طلبوا منه إحضار زوجته أثناء التوقيع في المركز الأمني. وتتعرض معه للإهانة، ويهدد بعرضه. توصل عبدالرزاق لاجتهاد فقهي يقضي بأن ينهي حياته، ويموت دون عرضه. فموته سينهي التهديدات للزوجة والأطفال. وهذا يذكرنا بانتحار عدد من معتقلي غوانتنامو الذين حصلوا على فتوى تبيح قتل النفس مثل العمليات الاستشهادية. ظل في آخر أسبوع يسأل زوجته "سامحتني؟" فتجيب نعم. ذهب لسور بنزرت التاريخي وصلى ركعتين وألقى بنفسه عن السور مكبرا على نظام لم يرحمه ولم يرحم أطفاله ولا زوجته ولا شيبة والده. كان ذلك العام 1997 ولم تسمع صرخته يومها.
الملاحقة استمرت في الجنازة، أجبر ذووه على دفنه ليلا من دون مشاركة من الجيران والأقارب. أسوأ من ذلك، ظلت الزوجة تتعرض للتحقيق حول مصادر تمويل العائلة. قالت لهم أنا أعمل محاسبة، وارحموا الأطفال ومنهم معاق، فرد رجال "أمن الدولة" إن والدهم لم يرحمهم ونحن لا نرحمهم. تفوقت بنته وحرمت من الابتعاث، وعوقبت بالسكن الجامعي. لكنها تخرجت بتفوق، وكان الأمن يسألها عن سبب تفوق ابنتها!
قصة من آلاف القصص المأساوية، تكشف أي جرائم ترتكبها تلك الأجهزة التي تستحق المحاسبة والمساءلة، لا الحل فقط.