من يصنع الحدث في الصراع العربي-الإسرائيلي الآن هم ثلاثة أطراف رئيسة: الحكومة الإسرائيلية والجيش؛ والمستوطنون؛ وفئات شعبية فلسطينية، وليس القيادة أو الأطر الرسمية الفلسطينية العربية. وهذه حالة غير مسبوقة فلسطينيا، لم تحدث قبل اتفاقيات أوسلو أو بعدها؛ ففي انتفاضة النفق 1996، كان ذلك اختباراً توحدت فيه السلطة والأجهزة الأمنية مع الشعب. واستعادت القيادة السياسة زمام المبادرة في انتفاضة الأقصى. أمّا الآن، فإن حركة "فتح" والأجهزة القيادية الفلسطينية، غائبة بأذرُعها الشعبية، وغائبة بالأجهزة البيروقراطية، وغائبة الرؤية أو الموقف السياسي والاستراتيجي الذي يمكن أن يحدِث حوله التفافا شعبيا.
لم يكن الوضع بالسوء الذي هو عليه -إلى هذه اللحظة- حتى في حربي غزة 2008 و2012؛ كانت هناك تحركات دبلوماسية في حدها الأدنى، وكان لمصر دور، حتى لو بقي في إطار الوسيط. وجاءت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بنفسها لوقف الحرب التي بدأت العام 2012.
الدول العربية ما تزال تبحث ما إذا كان وزراء الخارجية العرب سيجتمعون أم لا، في اجتماع لا يتوقع منه شيء.
حتى الفضائيات العربية "طمرت" الحدث تحت قائمة اهتماماتها في زعزعة أو تثبيت النظام الجديد في مصر وساحات أخرى، ووجد الفلسطيني نفسه، ربما لأول مرة، متجها لقنوات وإذاعات فلسطينية غير رسمية، تتبع القطاع الخاص أو فصائل، فضلا عن وسائل التواصل الاجتماعي.
كتائب عز الدين القسّام في قلب المشهد، والأذرُع العسكرية هي التي تتصدر المشهد والقرار. ولكن آلية اتخاذ القرار على المستوى السياسي الفلسطيني، بما في ذلك حركة "حماس"، لا تبدو واضحة.
لا الحديث عن إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، أو فكرة القيادة الموسعة، ولا حكومة الوفاق الوطنية، مفعّلة لتؤمّن الحد الأدنى من تحرك سياسي أو دبلوماسي موحد أو فاعل.
ما نتيجة هذا الوضع؟ وما هي نتيجة فحوى الخطاب الفلسطيني إبّان قضية اختفاء المستوطنين الثلاثة، وتقبل الاتهامات الإسرائيلية قبل ثبوتها فعليا، وقبل ذلك إشارات إلى قدسية التنسيق الأمني؟ ثم هناك هذا العزوف الأميركي المصري العربي عن التحرك، والبطء المتوقع لإيقاع التحرك الفلسطيني على صعيد المنظمات الدولية، واستبعاد اجتماع وتحرك فلسطيني موحد.. ما نتيجة كل هذا؟
بداية، فإنّ الخسائر البشرية في غزة في صعود عمودي للأعلى، كنتيجة للشعور بأنّ العواقب محدودة، أو معدومة. وثانيا، تُبنى الحسابات التي تتحدث عن أنّ إسرائيل تخشى الحرب البرية ولَن تُقدِم عَليها، على أساس صعوبة إعادة احتلال قطاع غزة، وعلى أساس كبر الخسائر التي قد تتعرض لها القوات الغازية، وتتجاهل أنّ هناك ما هو أخطر من الحرب البرية.
مع معطيات المواقف الفلسطينية الرسمية، والإقليمية والدولية، وهذا الصمت المطبق، فإنّ ما قد يحدث هو أن تستهل إسرائيل سياسة القصف السجّادي، والأرض المحروقة في قطاع غزة، وأن تقنع الرأي العام الإسرائيلي بأنّ هذا العدد الكبير من الصواريخ يبرر حربا لا هوادة فيها في غزة، ولا تسمح بأي احتجاجات من قبل الرأي العام الإسرائيلي ذاته. ويصبح هناك سؤال الحرب البرية لا معنى له، ولا تحتاجه إسرائيل. ويمكن إيقاع خسائر في الجانب الفلسطيني بهذه الطريقة أكبر من الحرب البرية التي لا تحتاجها إسرائيل حقاً؛ فيمكن إبادة أحياء كاملة لقتل قائد سياسي، ولخلق واقع سياسي جديد.
وبقراءة تاريخية للحروب التي خاضها الإسرائيليون، بدءا من العدوان الثلاثي 1956، إلى حرب العام 1967، وصولا إلى غزو بيروت 1982، فإنّ الملاحظ أنّ أهداف الحرب الإسرائيلية يمكن أن تتغير، خصوصاً في اتجاه الاتّساع، إذا شعرت أنّ المواقف الدولية والوضع العسكري يسمح أو يتطلب ذلك. فمثلا، ما كان الإسرائيليون ليحتلوا الجولان السوري العام 1967 لولا التأكد أن الاتحاد السوفيتي لن يكون له أي تحرك حاسم رداً على ذلك، ولولا التأكد من سهولة تحقيق هذا الهدف عسكريّا.
مما قد يوقف ويكبح التحرك الإسرائيلي الصهيوني، الشعور بتبعات هذا التحرك على الساحات المختلفة في باقي فلسطين، ورد الفعل الشعبي. وما قد يؤدي إلى حراك دولي وإقليمي، هو الشعور بوجود تبعات في الشوارع العربية، وبالتالي في البلدان العربية.