لا يكاد الشّاعر والمفكّر الكبير أدونيس يُلقي بعبارة في لقاء صحفيّ أو سواه تمسّ الوضع السياسيّ أو المعارضات العربيّة حتى يتصدى أصدقائي من أهل الثقافة والكتابة إلى ما يقول، في شبه حملة جماعيّة. وهو أمر ليس بمستغرب، ما دام الرجل قد قرّر أن لا ينام على حرير الإجماع، بل أن يمشي دائماً ومن دون أيّ تردّد أو تراجع، على الشّوك وبين صخوره الجارحة! فمنذ كتب كتابه المخيف والضّرورة "الثابت والمتحوّل"، وهو في دأب مُرّ لإعمال تفكيره النّقديّ، لا يستثني من ذلك أنظمة أو شعوباً، محاولاً طرح مشروع سلميّ وحضاريّ للنهوض، ليس منه إراقة الدماء تحت أيّ مسمّى حتى لو كان هذا المسمّى "ثورة".
ولكنّ المستغرب حقّاً هذا التّجييش ضدّه، كأنّه قاعدٌ على رأس ميليشيا ستقتحم الحصون المنيعة التي للمثقفين، كلّ في ساحة "نضاله" التي اختار! أو كأنّ بيده "كنترولاً" سيمحو بأمر منه وجودهم في هذه الثّكنة أو ذلك الحشد، وسيجعل منهم كائنات افتراضيّة ليس غير! والحقيقة المؤلمة التي تتأكّد لنا كلّ يوم أنّ كثيرا من المثقّفين العرب، وعلى محكّ الوقائع، ليسوا سوى أشخاص افتراضيين، كثُر هذرهم وقلّ فعلهم، وأنّهم طاقة لفظيّة لا تكاد تنفد، لا تدور، غالباً، إلا في فراغ المعنى. أي أنّ المعارك الكلاميّة التي تشغلهم تنطوي على قدر غير قليل من الانفعال أو الشوفينيّة أو القراءة في الضمائر ومن ثمّ التّخوين! وهو حال لا يختلف عن حال الإسلامويين الذين لا يقدمون في خطابهم إلا الانفعالات والتّكفير.
ومن منا يستطيع أن ينسى الزّئير الكلاميّ الذي أطلقه بعض مثقفينا -ومنهم أصدقاء شخصيّون لي- عندما صرّح أدونيس على هامشِ مهرجان شعريّ في أربيل العراقيّة أنّ العرب قد انقرضت حضاريّاً. كان ذلك قبل اندلاع شرارة تونس ومن ثمّ مصر، اللتين أضافتا المزيد من العنفوان والاعتداد إلى الخطاب الثقافيّ العربيّ. وكان علينا أن ننتظر عاماً واحداً فقط لنرى رأي العين كيف تتحوّل ليبيا إلى عشائر متناحرة تأتي على الأخضر واليابس، وكيف تنشطر السودان، وكيف توغل العراق في التمزّق وانهيار الدولة، وكيف تنطلق "معارضات" إرهابيّة دمويّة تعلن صراحة أنّها ضد الحضارة وضدّ الاختلاف، أي ضد ما هو مشروع إنسانيّ متعدّد وديمقراطيّ!
أدونيس لا يصمت، ودائم الحفر في الجرح الملوّث. وقد قال مؤخّراً: إن تغيير النّظام أمر ثانوي أمام تغيير المجتمعات العربيّة. وهو رأي كان يمكن أن يكون شديد البأس على الحقيقة وإدراكها لو قيل قبل ما سميناه بالربيع العربيّ، ولكن أن يقوله هذا المفكّر الذي لا يتوقف عن التّحديق في الحال البائس الذي للعرب اليوم، بعد أن تكشّف الربيع عن شتائه القطبيّ، فذلك يعني أنّ الشاعر والمفكّر اللذين في أدونيس قد قرأا الواقع لا أكثر دون أيّ زيادة بلاغية، وهو واقع كالأساطير ينبئنا أنّ الشعوب العربيّة موغلة في التخلّف، بل إنّ جزءاً لا يُستهان به منها موغل في الهمجيّة، وإلا فكيف تحوّلت معارضات بعينها من سلميّة هاتفة بإسقاط الأنظمة إلى معارضات دمويّة عمياء لا تُبقي ولا تذر؟! عندما يحدث ذلك فإنّ أدونيس الرُّؤيويّ في مقولته "انقرض العرب" هو، عندما قال بثانوية تغيير الأنظمة، شاهد عصر على تهلهل النّسيج الأخلاقيّ والفكريّ والحضاريّ الذي للمجتمعات العربيّة، وهو بالمناسبة، ليس الشاهد الوحيد، فهناك فراس السواح وعزيز العظمة وغيرهما ممن حذّر من ولوج النّفق الراهن بكينونات تعلن الثورة على الأنظمة الخربة وهي تحمل بأيديها أدوات الدمار الشامل ومن دون تمييز!
هل من أمل؟؟؟