نعاني في الأردن من موروثات سياسية ما زالت تسيطر على اتجاهاتنا منذ خمسينيات القرن الماضي، وتشل العلاقات السياسية بين الناس وكل من يتولى الحكم. يضيع نصف الجهد الوطني في محاولات تصحيح هذه العلاقة التي صارت أشبه بتحد. ما زلنا نطالب بالإصلاح، مثلا، على الرغم من كل ما حققناه، كأن لم نتقدم خطوة واحدة، بعد. نتعامل مع فرضية «قوى الشد العكسي» كما لو كانت مسلمة غير قابلة للنقاش. في الاستطلاع الأخير لمركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية الذي كشفت مخرجاته عن ازدياد نسبة الراضين عن أداء حكومة النسور، سمعنا من شكك في تلك المخرجات. واضح أننا نعاني من حالة من قصور ذاتي كما يعرفها علم النفس.
ربما دفعت لمثل هذا الرأي أن حكومة النسور كانت الأولى بين آخر عشر وزارات أردنية التي حققت مثل هذه النتيجة. فقد ارتفعت نسبة الراضين عن أدائها بين عينة قادة الرأي العام إلى 57 %، وهم الذين، بحكم تجربتهم وسنهم، يعرفون أكثر من غيرهم حقيقة الإنجاز. كما ارتفعت أكثر من 13 نقطة بين أفراد العينة الوطنية، إلى 42%. هل كانت نتائج الاستطلاع طبيعية، يا ترى؟ في ضوء ما يعانونه من صعاب؟
الحقيقة أن الأردنيين باتوا يدركون أن أسباب ما يعانونه، هذه الأيام، قائم في تأثير عوامل خارجية لا سيطرة لأحد عليها، كانقطاع الغاز المصري، مثلا، بعد تفجير أنابيب سيناء الناقلة له «من الذي يفجرها؟» وارتفاع أسعار الكهرباء والمحروقات؛ وتدفق اللاجئين بنسب تلامس «17 % من السكان،» وما ينتج عنه من ضغط على بنانا التحتية، والصحة والتعليم، والمياه والكهرباء والعمل والسكن والغذاء والأسعار؛ وتطويق بلادهم على الأرض، بتدمير طرق تجارتها البرية للخارج كما يحدث في سورية المنكوبة، والعراق، في محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى، وبحقد موتور لم نعهد مثله من قبل.
يرى الأردنيون ذلك رؤي العين، وما يمثله من ضغط على قدراتنا. ويتساءلون، حين يطلب إليهم التعبير عن رأيهم، كيف يمكن للحكومة أن تتعامل مع هذه الحالة بغير لجوئها الواقعي لسندين: الأول هو الثقة بذكاء شعبنا وفهمه لقرارات الحكومة الشجاعة، على الرغم من تأثيرها السلبي في معاشهم اليومي؛ والثاني هو قدرتها، في الظروف الصعبة، على تدبر الأمر، سياسيا، مع أصدقاء الأردن، وهم كثر لكنهم يحتاجون للوقت لكي يكونوا، معنا، في الميدان؟ لقد حوصر الأردن، في تاريخه الحديث، حصارا محكما أكثر من مرة، ومن قبل من يفترض فيهم أن يكونوا عربا غيورين على مصالح الأمة، فنازلهم وانتصر عليهم، واكتسب في نزالاته معهم- شعبا وقيادة- معارف وتجارب تجعله أشد إيمانا بقدرته على تدبر الأمر والخروج منتصرا في مواجهته التحديات.
صاروا، وهذا اتجاه جديد مخالف لكل الموروثات القديمة، يثقون بمن يتولى المسؤولية. فالحكومة، رئيسا ووزراء معروفون بنظافة يدهم، وبالتزامهم خطا ثابتا في تقوية سلطات الحكم الرسمية وغير الرسمية، وعلاقاتها البينية في تعاون وثيق بدأت تظهر آثاره تدريجيا، كما في نتائج الاستطلاع.
لقد أوقفت الحكومة، بداية، ممارسات الفساد، كمرحلة لا بد منها في ملاحقة مصادره والقضاء عليه، نهاية الأمر. ولذلك كان ميثاق النزاهة الوطنية وتقرير الخصخصة، وبرنامج النهوض بالمحافظات واستكمال الأطر التشريعية اللازمة.
فعلت الحكومة ذلك تحت ظروف عمل قاسية. فمصادر القوة الوطنية التي تستخدمها الدول لتحصين نفسها ضد التعرض لها، عادة، هي، في بعضها، في الحالة الأردنية، كالموقع الجيوسياسي، تحمل الأردن أعباء تعيق عمل دول أكبر وأغنى.
على أن الأردن استطاع ويستطيع تدبر أمره بنجاح مستندا دائما لمرتكزين هما: قدرة الدبلوماسية الأردنية التي تنتهجها قيادتنا التاريخية على كسب الصداقات في عالم متبادل الاعتماد بما يشد من عضدنا في المواجهات المفروضة علينا وعلى المنطقة كلها حولنا؛ ثم وفي المركز الأول اعتياد شعبنا الدائم على مواجهة الصعاب والانتصار عليها.
يمكننا القول، هنا، ان وعي المواطنين المتزايد على عوامل قوتهم الذاتية، بات جزءا بنيويا من تكوينهم ومعارفهم الناضجة التي يضعونها في خدمة كل ما يعزز وحدة العمل الوطني، وهو سلوك يترسخ ويتوسع مداه كل يوم في تحول ثقافي لمجتمع بأسره نراه يتكامل شيئا فشيئا بقدر ما يكون ذلك ممكنا في حالتنا الأردنية التي لا تزال تعاني من بقايا موروثات سياسية قديمة كانت معيقة لحركة الأمة كلها. كانت مخرجات استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، الأخير، مؤشرا مطمئنا على بدايات ذلك التحول الذي نرجو له أن يمتد لكل آفاق جياتنا السياسية. نثق بأن مركزنا العتيد سيوسع بحوثه لتعريف أشد تفصيلا بكل مظاهره بما يسهل تنفيذ مهمات شعبنا في عملية استكماله وترسيخ اتجاهاته.