أصابت الثورة المصرية بنية المجتمع المصري سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثفافيا وفكريا، وسيذكر التاريخ أن مصر 25/ يناير غير مصر قبل ذلك التاريخ مهما كانت نتائج الثورة، لأنها كسرت رتابته وتحجره، عبر ثلاثة عقود من التدليس والتزوير والفساد والقمع والارهاب السلطوي.
وبداية لا بد من التأكيد على أنه لا صوت يعلو الآن على أصوات الثائرين في ميدان التحرير وغيره من الميادين في كل محافظات مصر، لأنه صوت له لون واحد وطعم واحد وشكل واحد فقط "ارحل ومن معك من منظومة الفساد والطغيان" وما الاصوات الشاذة التي تأتي من هنا وهناك، الا صدى أنين نظام يحتضر بعد أن وصل الى أرذل العمر، لولا التنفس الاصطناعي من امريكا واسرائيل ومن تبقى من المعتدلين العرب، الذين يحاربون الى جنبه، ليس دفاعا عنه بقدر دفاعهم عن انفسهم، لأن لهيب نيران تونس من الواضح انه يمتد ليحرق دولا، كانت تعتقد أن حركة التاريخ توقفت عند أقدام عروشها.
وإذا أردنا أن نعرف ماذا يدور في مصر، علينا أن نعرف ماذا يدور في كل من واشنطن وتل أبيب، لأن هناك من جهز غرفة عمليات استعداد لاستنساخ نظام جديد، يحمل نفس الروح ولكنه مختلف الملامح. ومن الواضح أن زلزال الثورة المصرية الحديثة، قد خلط الأوراق في المنطقة والشرق الأوسط، وأصبح من الممكن الحديث عن شرق أوسط جديد بنسخة عربية هذه المرة. فكل أجهزة الرصد الامريكية والإسرائيلية عجزت عن التنبؤ بهذا الزلزال بهذه السرعة، وهي لم تفق بعد من زلزال تونس، فرأينا حالة التخبط التي عاشتها الادارة الامريكية في البداية، والت نادت بالتغيير الفوري "الان" للسلطة، وتعاطفت مع المتظاهرين وحقهم في التعبير، الى عبارات وتصريحات لاحقة، جوفاء تحمل في ثناياها الابقاء على الروح والتخلي عن الجسد، واستنساخه في شخص الرجل القوي والحليف لها ولإسرائيل عمر سليمان .
وقد ذكرت وسائل اعلام اسرائيلية، ان قوات امريكية بحرية خاصة باتت على وشك تولي ادارة قناة السويس، وان قوات بحرية وجوية امريكية خاصة باتت تتمركز في منطقة البحيرات المرة في القناه، بالقرب من مدينة الاسماعيلية. ويبدو أن هذا منطقيا ومتزامنا مع تصريحات عمر سليمان القوية، التي هدد فيها بانقلاب عسكري، وذلك اثناء اجتماعه برؤساء تحرير الصحف المصرية، خاصة وأن موقف الجيش المصري لم يحسم بعد، وهو يقف موقف البطل السلبي من الاحداث والتطورات الجارية هناك، وهو واقف بمزلة بين المنزلتين ولم يقل كلمة الفصل بعد، ومن الواضح أنه أمام خيارات صعبة ومصيرية وتجاذبات داخلية وإقليمية ودولية على مستوى القيادة، والخوف انه ينتظر وصفة سحرية من عواصم القرار .
خوفي على الثورة ليس نابعا من النظام العربي، الذي ليس له من شاغل الآن الا أن يرمّم صورته أمام مواطنيه، ولسان حاله يقول هو الآخر "راني فهمتكم"، بل خوفي نابع من ذاك الصمت المريب في تل ابيب، وهو يراقب ويشاهد ويحلل. وبدأت اولى الاصوات تظهر علينا من خلال مؤتمر هرتسليا الأمني، وهو مؤتمر يعد من أبرز المؤتمرات التي تخطط وترسم شؤون الامن والسياسة والشؤون الاستراتيجية في اسرائيل، وقد شارك في نسخته الحادية عشرة حوالى300 شخصية من النخب والقادة السياسيين والعسكرين، وهو يعتمد في دراساته وأبحاثه على منظومة استخبارية على درجة عالية من الدقة والانضباط التحليلي، وان كان يغلف كل ذلك بطابع اكاديمي.وقد اتفقوا على شيء بسيط عنوانه أن الاستقرار في مصر أهم من الديموقراطية، وهو ملخص بسيط يقود الى ملخص آخر أقل بساطة خلاصته أن استقرار مصر هو استقرار لإسرائيل سياسيا وعسكريا وماليا ومعنويا. بل إن عاموس جلعاد وهو رئيس الهيئة الأمنية والسياسية في وزارة الدفاع الإسرائيلية قال:"إن على العالم أن يدعم مصر موحدة وقوية" لأن بقاء الحالة المصرية في عهد مبارك ونظامه على ما هي عليه الان، أبقت الجبهة الجنوبية الغربية لها في سلام طيلة ثلاثة عقود ونيف، والذي انعكس بذلك على انفاقها العسكري وتحويله الى التنمية الاقتصادية والبشرية. وقد ذكرت صحيفة غلوبس الاقتصادية " أن مصر هي الدولة الاكثر تأييدا لدولة اسرائيل بعد الولايات المتحدة الامريكية، وان المساعدة المصرية لإسرائيل ليست اقل بكثير من المساعدة الامريكية، ففي حين تبلغ المساعدة الامريكية 2.5 مليار دولار في السنة، تبلغ المساعدة المصرية لإسرائيل حوالي 1.7 مليار دولار في السنة. ومنذ عام 2004 مع بدء ضخ المساعدة لإسرائيل يبدو أن مصر قد دعمتها بمساعدة تبلغ حوالي 10 مليار دولار على الاقل، وهي تأتي عبر الاسعار التفضيلية للغاز المصري لها، وعلينا أن نتذكر ان حوالي 40% من الشعب المصري يعيش بدولارين في اليوم، فلم لا يخاطب جلعاد كل العالم ويحثهم على حماية النظام المصري ؟
مصر تتحدث عن نفسها الآن، وهي على صفيح ساخن جدا. ومع كل الاعيب واشنطن وتل ابيب والاعتدال العربي اجهاض الثورة، الا أن صوت التحرير من الميدان أقوى، لأنهم ببساطة لا يعرفون دهاليز السياسة وخبثها، واستغلالها واللعب على النقائض، ولا فنون استغلال اللحظة المناسبة، لانهم لا يعرفون الا الغضب، المتولد من رحم القهر والكبت والمعاناة، والسجون السرية والعلنية،إنهم ببساطة، يريدون أن يقولها الان وفورا" راني فهمتكم" لا ليهرب مع حاشيته وموال الشعب المسروقة، بل ليحاكم هو ومن والاه من الحاشية الفاسدة، حتى تنام أرواح الشهداء بهدوء.
10/2/2011