بعد اربع وعشرين ساعة فقط من وابل القصف الجهنمي على بغداد، كان الباعة على الارصفة يستبدلون بضائعهم، فبدلاً من المسجلات والادوات الكهربائية. وابور الكاز، وشمبر اللوكس والشموع، وما كنت أتصور ان انسان ما بعد الكهرباء هو مخلوق آخر تماماً، ولعل حروب العولمة أو ما بعد الحداثة والتاريخ سارت في هذا الاتجاه وهو تدمير البنى التحتية بحيث يعاد البشر خلال ساعات الى القرن التاسع عشر.
وبالامس شاهدنا الحمام الزاجل في مدن سورية يستعيد وظيفته القديمة، بعد ان تقاعد عنها في زمن الطائرات والفاكس والانترنت والهواتف الجوالة.. وذلك لكي يتصل الناس ببعضهم في غياب الكهرباء وما قدمته من نعم للبشر.
وفي فلسطين استخدم المحاصرون الدجاج الزاجل، بحيث تربط تحت اجنحته البرقيات فيصعد بها الى سطوح المنازل المتقاربة والتي تتنفس في أفواه بعضها.
ومن يعيشون في المقابر والعشوائيات يعانون من شيزوفرينيا تقارب الجنون لانهم في النهار يعملون في مدن معاصرة، وفي الليل يعودون الى ما قبل التاريخ وما قبل الكهرباء وربما ما قبل الماء والانسان!
هذا هو العربي الذي بشر به ثوار وانقلابيون ونهضويون منذ مئة عام. انه العربي الزاجل، الذي قد يتورط بحمل برقية تأمر بذبحه، كما حدث لجده طرفة بن العبد الذي حمل رسالة موته في عنقه.
والاحجية الآن التي يعجز عن تفكيكها المناطقة والفلاسفة وعباقرة العالم كله هي كيف تم زواج مظاهر الحداثة وما بعدها بأقسى ما أفرز التاريخ وفي ذروة توحشه من بدائية؟ وما هو مصير العربة ومن تحملهم اذا كانت الخيول قد وزعت بالتساوي بين ما يجرّ الى الوراء وما يحاول ان يجر الى الأمام، ربما لهذا السبب تحققت تلك المقولة «محلك سر» فالشعارات التي ظهرت منذ قرن يعاد انتاجها الآن.. فلا الرغيف وصل رغم كل اللعاب الذي سال عليه وعلى رائحته، ولا الحرية طرقت الابواب الا لتقول بأنها ذاهبة الى عطلة تاريخية لا يعلم الا الله مداها.
ولا المساواة والعدالة تأبطت كل منهما ذراع شقيقها وتناولتا العشاء في هذا البيت العربي السعيد. في خمسينات القرن العشرين وستيناته كانت حرب الدبابات لاحتلال محطات الاذاعة هي بديل حرب التحرير، التي وعد بها وتذرع بها الجنرال والمقاول والسمسار، فكانت الحصيلة هي ضياع ما تبقى من فلسطين اضافة الى هضبة وشبه جزيرة.. ثم تحول المسروق الى استحقاق رغم ان المهزوم رضي بالبين والبين لم ولن يرضى به!
حتى في الاقطار التي اوشكت أن تودع الأمية، سرعان ما عاد الزحف الجاهلي الى جامعاتها ومدارسها بل لقراها وباديتها، لأن الأمية الثانية أنكى وأشد.
انها احجية ندعو العلماء والفقهاء وقراء الطوالع والسحرة والميتا استراتيجيين الى حلها، وهي على النحو التالي:
* تسلح ادى الى التجويع والانيميا الاقتصادية ثم هزائم تليق بشعوب لا تعرف من السلاح غير السكين والعصا.
* جامعات ومعاهدة ومراكز اعلام بعدد الحصى واكثر من عدد الصيدليات ومحطات البنزين، والمنتج البشري حاضنات لتفقيس الموظفين الذين ينتظرون التقاعد.
* ثلث مليار انسان يبحثون عن شتى الوسائل لاسترضاء اقل من خمسة ملايين بحيث تكون المعادلة وفقا لدرس الحساب للصف الرابع الابتدائي وليس لدرجة الدكتوراه هي واحد مقابل ستين..
والمخفي أعظم!!