أصبحت التحذيرات تتوالى من المؤسّسات الصحّية في غزّة عن "متلازمة الخيمة المُبتلَّة"، وتعني الآثار الصحّية التي تلحق بالنازحين جرّاء بقائهم في الخيام منذ أكثر من عامَيْن، وفي ظروف صحّية وإنسانية أصعب من أن تُوصَف بكلمات مختصرة، سيّما مع حلول فصل الشتاء؛ حين تتبلّل الخيمة بقماشها غير المُؤهَّل لأن يقي مَن بداخلها من مضاعفات غضب الطبيعة المتمثّل في المنخفضات الجوّية التي تضرب المنطقة عموماً، وهي المنخفضات التي يفرح بها الأغنياء القابعون في بيوتهم، يراقبون الغضبة التي تُشبِع شغفهم بمزيد من الإثارة؛ يفعلون ذلك من خلف زجاج سميك، لكنّها تقتل البؤساء بطرائق شتّى، إذ يتعيّن عليهم مواجهة هذا الغضب كلّه بعد أن تنهار الخيمة.
يمكن الحديث عن التداعيات الصحّية للعيش في خيمة طوال العام، وما يتبع ذلك من أضرار نفسية واجتماعية، لكن مع حلول المطر والبرد تصبح المواجهة مع مشكلات صحّية لا تُعدُّ ولا تُحصى. فلا يمكنك أن تصمد بجسدك المتهالك أصلاً (بعد عامَيْن من الحرب) أمام الرطوبة التي تتسرّب إلى عظامك بفعل الماء الذي تسلّل تحت فراشك وبلّل أغطيتك أيضاً، فأصبحتَ نائماً في "شطيرة مائية"، وهو أقرب وصف لحالك.
العيش في وسطٍ رطبٍ سبب في انتشار الأمراض سريعاً، بكل أنواعها، ولا سيّما ما يرتبط بالجهاز التنفّسي، نتيجة انخفاض درجة الحرارة وعدم قدرة الأعضاء الداخلية على الموازنة بين درجة حرارة الجسم وانخفاض الحرارة المحيطة المفاجئ، إذ تحتاج أجهزة الجسم إلى درجة حرارة معيّنة كي تعمل بكفاءة.
تتعدّد الشكاوى من الأمهات الشابّات والفتيات والفِتية والأطفال، وهي شرائح عمرية يُفترض أن تكون في مقتبل العمر، إذ ترتفع مناعة أجسامها، لكن العيش في خيمة مُبتلَّة جعل الشكاوى لا تتوقّف: من آلام في العظام، بل في كل أنحاء الجسم، إضافة إلى ظهور آفات أخرى لا يُفترض أن تُصيب مثل هذه الشرائح من المجتمع، لكنّها أصابتها بالفعل بسبب تدهور الظروف الصحّية الناتج من الحرب، وكارثة التشريد، وفقدان البيوت الإسمنتية الآمنة، وانقلاب حياة الناس رأساً على عقب، فوجدوا أنفسهم فجأة في العراء، وأمام عجز واضح وبَيِّن في المنظومة الصحّية، بسبب تداعيها وعدم ترميم منشآتها بعد أن دكّتها آلة الحرب بشكل مُتعمَّد.
يعيش الناس في الخيام المُبتلَّة فوق أرضيات مغمورة بالماء، ولا توجد أيُّ وسيلة جيّدة لتصريف مياه الأمطار حول الخيام، فتندفع كالسيول إلى داخلها، ما أدّى إلى انتشار أمراض السعال والتهابات الجهاز التنفسي، خصوصاً بين الأطفال. وتشهد المستشفيات القليلة عجزاً عن استقبال المرضى الذين تنتقل إليهم العدوى بسرعة، بسبب التكدّس البشري داخل الخيام، وعدم تطبيق سبل الوقاية الصحّية، كالتباعد في حال الإصابة بالأمراض التنفّسية المختلفة الناتجة من العدوى الفيروسية، ولا سيّما في فصل الشتاء.
وتصف إحدى الأمهات الليلة التي قضتها مع زوجها في محاولةٍ لحماية أطفالها من النوم على الأرضية المبتلة، فتقول إنها أمضت الليلة واقفة على قدميها، وهي تحمل بين ذراعيها طفلتها ذات العامَيْن، فيما يفعل زوجها المثل مع طفلهما ذي الأربع سنوات. ولم يكن هناك حل آخر كي تحمي الطفلَيْن من النوم في مستنقع، كما تقول، لكن ذلك لم يمنع أن يُصاب طفلاها بأمراض جلدية غريبة لا تجد لها دواءً، ناتجة من سوء الحياة عموماً في خيمة مصنوعة من بعض الأغطية المهترئة، التي استطاعت إنقاذها من بين ركام بيتها المُدمَّر.
وإذا كانت "متلازمة الخيمة المُبتلَّة" تطارد ساكني الخيام، فهي ليست أزمةً عابرةً بسبب الطقس، بل أزمة حقيقية تكشف مخطّطاً بعيد المدى لزيادة عدد الوفيات بين الأجيال الصغيرة؛ إذ ازداد عدد الوفيات بين الأطفال على وجه الخصوص، ما يعني التفريغ الممنهج للقطاع، إضافة إلى شنّ حرب جديدة على كرامة الإنسان الفلسطيني وصحّته وإنتاجه البشري، في وقت لا يقدّم فيه العالم سوى استجابات إغاثة مُؤقَّتة، بوصفها نوعاً من التعتيم الإعلامي على حقيقة ما يجري في الخيام المُبتلَّة.




