تتكثف الأمنيات وتتقاطر عند بوابة السنة الجديدة، وكأن الناس من كل الأجناس قد تعاقدوا بدون عقد مكتوب، على طرح أمنياتهم عند بداية كل سنة جديدة، بعضها خصوصية وذاتية، وبعضها عامة وشمولية، لكن البعض الثالث يدمج ويمزج ما بين الخاص والعام، خصوصا هؤلاء المفكرين والفنانين والمبدعين الذين لا يرون انفصالا حقيقيا بين الخاص والعام، بل رأوا أن الخاص هو في محصلته عام، والعام هو خاص، نحن كلنا تحت شمس هذا الكوكب، جزء من كل، ولا مكان ابدا لهذا الكل، بدون هذه الأجزاء.
الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب (1934 – 2022) واحد من هؤلاء الذين كتبوا في هذه الأمنيات عند العام الجديد مطلع ثمانينيات القرن الماضي قصيدة حملت العنوان "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة"، جمع فيها بين العام والخاص، (أي الهي ان لي أمنية أخرى: المنفى يعودون، ومن ثم رجوعي).
لم تتحقق أمنية مظفر النواب حتى بعد مضي نحو نصف عمره على إطلاقها، ولم يعد إلى وطنه العراق إلا جثمانا هامدا، ودفن في النجف حسب وصيته حيث كان يعرف انه لن يعود حيا.
لوكان النواب حيا، لتخلى عن أمنيته الخاصة والعامة، المتعلقة بعودة المنفيين إلى أوطناهم، (ومن ثم رجوعي)، فهي بالنسبة لما يحدث في غزة، بمثابة ترف كلامي مصفوف وموزون ومقفى "مجرد شعر"، كالذي قال: أحضر الشاي وهيّا / واسقني كأسا شهيا.
كان سيرى غزة التي ذبحت من الوريد الى الوريد، على مرأى ومسمع أخوة الأوطان واللغة والدين والتاريخ والجغرافيا، يراد لها التفريغ والتهجير القسري والنفي الكلي (نفيا اختياريا) وشطبها من الجغرافيا او تحويلها من مخيم كبير اومقبرة كبيرة الى "ريفيرا" اومنتجعات للشرطة وقوات الامن والجيش الذي اصبح مدموغا بالجيش الأسود الجبان الذي يقتل الأطفال كهواية؛ "هند رجب" كمثال.
الشاعر السوري الكبير، نزار قباني (1923-1998) الذي بدوره مات منفيا، ثم عاد الى الوطن في كفن، قال لبيروت قبل أكثر من أربعين سنة وهي تعفر السكن والرماد على شعرها جراء اغتصابها وتدنيسها، ما يمكن ان نقوله لغزة : قومي من تحت الردم / كزهرة لوز في نيسان / قومي من حزنك قومي / قومي إكراماً للغابات / قومي إكراماً للأنهار وللوديان / قومي إكراماً للإنسان / قومي من فضلك قومي / إن الثورة تولد من رحم الأحزان .
ما كان الذي حصل في غزة ليحصل، لوأن النواب والقباني، والآلاف مثلهم، لم يلفظهم الوطن، ويبقي على لصوصه وسماسرته وتجاره وحكامه وأقزامه، يجيرونه ويقوضونه ويجرّفونه ويعرضونه "كنعجة صبح في السوق" بأبخس الأثمان.






