نادراً ما يمكن فهم إيران الحديثة خارج سياقها الإقليميّ، فعلى الرغم من خصوصيّتها المذهبيّة، ذاكرتها الإمبراطوريّة وبنيتها السياسيّة المعقّدة، كانت تحوّلاتها الكبرى، في معظم الأحيان، جزءاً من الموجة نفسها التي اجتاحت العالمَين العربيّ والإسلاميّ. أحياناً سارت إيران مع التيّار، وأحياناً سبقته، لكنّها نادراً ما وقفت خارجه.
صحيح أنّ زلزال السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل ضرب غزّة أوّلاً، لكنّ ارتداداته العنيفة حرّكت الصفائح التكتونيّة للسياسة الشرق الأوسطيّة، وخلقت حقلاً هائلاً من الرمال المتحرّكة لا قدرة لأحد على الخروج منه إلّا بقدر عالٍ من الديناميكيّة والبراغماتيّة. فقد أخرج التفوّق الإسرائيليّ فصائل "محور المقاومة” من الخدمة بما هي خطّ دفاع متقدّم عن الأمن القوميّ الاستراتيجيّ الإيرانيّ، وفي مقدَّمها "الحزب” و”حماس”، وتعرّضت طهران، لأوّل مرّة منذ الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، لضربة مباشرة، ثمّ سقط النظام الأسديّ، ففقدَ المحور عمقه الاستراتيجيّ وخطّ إمداده.
كان "إعلان شرم الشيخ” إيذاناً ببدء تحوّل كبير في منطقتنا، عنوانه السلام المدفوع بالمصالح المشتركة وخطط التنمية العابرة للحدود، أو هكذا صدّق البعض. انخرط الجميع، بدرجات متفاوتة، في هذا المسار، ما عدا إيران. فبعد عامين على "الطوفان”، تبدو الجمهوريّة الإسلاميّة عالقة في لحظة متجمّدة من الزمن، لحظة سيطرت فيها على أربع عواصم عربيّة وفرضت شروطها على المفاوض الأميركيّ والجار العربيّ.
راهن كثيرون على قدرة النظام الإيرانيّ على المناورة في الميدان وعلى طاولة المفاوضات النوويّة، وسُكب حبر غزير عن "الحذاقة الفارسيّة” وقدرات "تاجر البازار” و”صانع السجّاد” على الالتفاف وتدوير الزوايا. غير أنّ هذه الحذاقة لم تفهم، على ما يبدو، عمق التغيير المطلوب لإلحاق طهران بركب العصر الجديد. فبدت إيران–النظام أشبه بمرشدها: هرِمة تنتمي إلى زمن غابر فقدت لغة التواصل مع مجتمع ديناميكيّ حيّ يتقن لغة العصر الرقميّ ويتطلّع إلى مستقبل أكثر إشراقاً لأبنائه.
المفارقة أنّ إيران، التي لطالما قدّمت نفسها بوصفها دولة "مختلفة”، تبدو اليوم في حالة من الاختلاف السلبيّ عن الإقليم، ليس لأنّ المنطقة وصلت إلى السلام أو الديمقراطية أو الاستقرار الكامل، بل لأنّ "منطق الحكم نفسه” بدأ يتغيّر في أماكن كثيرة، بينما لا تزال طهران أسيرة معادلات صيغت في زمن مضى. لكنّ الحال لم يكن دائماً كذلك.
من الدّستوريّة إلى الدّولة: إيران في قلب أسئلة عصرها
طرحت الانتفاضة الدستوريّة في مطلع القرن العشرين أسئلة الحكم وحدود الملَكيّة وموقع الدين من الدولة. وهي أسئلة لم تكن إيرانيّة خالصة، بل شغلت مفكّري عصر النهضة العربيّة، وشغلت علماء النجف الذين أثّروا بدورهم مباشرة في تشكيل الوعي السياسيّ لعلماء الدين وكثير من السياسيّين في طهران.
كانت أفكار مونتسكيو وفولتير وروسو وألفييري تُترجَم إلى العربيّة والفارسيّة، تُقرأ في دمشق وبغداد وطهران وتُصهر في القوالب الثقافيّة العثمانيّة والقاجاريّة لتعود فتظهر في كتابات الكواكبي والنائيني وغيرهما. ويشير الكاتب المتخصّص في الشؤون الإيرانيّة الدكتور سعود المولى إلى أنّ "الكتاب الذي أعطى المضمون السياسيّ التنظيميّ للانتفاضة الدستوريّة كان كتاب الشيخ محمد حسين النائيني، الذي كان يعيش في النجف. فقد صدر كتابه "تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة” في الزمن نفسه الذي صدر فيه "طبائع الاستبداد ومصائر الاستعباد” لعبدالرحمن الكواكبي، وتشابها في مضامينهما إلى حدّ كبير”.
لم تستورد إيران "المشروطة” من الخارج، لكنّها تحرّكت داخل فضاء فكريّ إقليميّ وعالميّ مشترَك رأى في الملَكيّة الدستوريّة جسر عبور نحو الدولة الحديثة.
التّحديث من فوق… ثمّ كسر المسار
مع صعود رضا شاه بهلوي في عشرينيّات القرن الماضي، دخلت إيران مرحلة بناء الدولة من فوق، عبر فرض النظام، إعادة تشكيل المجتمع وتقليص مساحة السياسة في تماهٍ واضح مع المسار الذي اختطّه مصطفى كمال أتاتورك في تركيا ما بعد الخلافة. شهدت إيران طفرة عمرانيّة وتنمويّة هائلة، فُرضت خلالها القيم العلمانيّة، ومُنع الحجاب، وتقلّصت الحياة السياسيّة إلى حدّ التلاشي، إلى أن جاء محمد مصدّق.
شكّل مصدّق لحظة كسر في المسار الذي رسّخه رضا شاه. لم يكن ثوريّاً ولا راديكاليّاً، بل رجل قانون ودستور. وكان تأميم النفط أكثر من قرار سياديّ. كان إعلاناً بأنّ الدولة يمكن أن تستند إلى الإرادة الشعبيّة، لا إلى العصا وحدها. وصل صدى التأييد الجارف لمصدّق إلى القاهرة، فحذا جمال عبدالناصر حذوه، وصنع مجداً حفظته له مصر حتّى اليوم بتأميم قناة السويس.
مرّة أخرى، لم يكن مزاج الإيرانيّين مختلفاً عن مزاج المصريّين أو الجزائريّين. كانت لحظة حركات التحرّر الوطنيّ، التي أدركت سريعاً أنّ الدولة لا تُحكم بالشرعيّة وحدها، بل بالقوّة التي تحصّنها. استوعب الشاه الابن هذه المعادلة بعد الانقلاب، واستوعبتها الأنظمة العربيّة التي بنت دولاً قويّة ظاهريّاً، هشّة من الداخل.
