صمد الصليبيون في عكا 100 عام إضافية بعد معركة حطين التي قادها صلاح الدين عام 1187، اذ تحولت مملكة قبرص لقاعدة خلفية للوجود الصليبي على شواطئ فلسطين ولبنان الى حين سقوط عكا في العام 1291 عام على يد السلطان الاشرف خليل بن قلاوون وانتزاعها من الصليبيين .
خلال مائة عام وما بعدها تحولت مملكة قبرص الى مفتاح لتهديد امن مصر والمشرق العربي، وهي اليوم باقترابها من الاحتلال الإسرائيلي وتشكيلها شراكة استراتيجية تقارب التحالف العسكري بقوات للتدخل السريع تجدد دورها التاريخي كتهديد لمصر والمشرق العربي وكعمق للوجود الاستعماري الإسرائيلي الذي تلقى ضربات قوية منذ السابع من أكتوبر دفعته لإحياء استراتيجية يائسة لمملكة عكا الصليبية وبشكل مباشر، فقبرص ومن خلفها اليونان مفتاح لتهديد تركيا ولبنان وسوريا الجديدة ، وهي قاعدة خلفية للاحتلال الإسرائيلي يتهدد امن الإقليم برمته بل وامن قبرص واليونان.
التحالف اليوناني القبرصي الإسرائيلي نموذج جيوستراتيجي مكلف تكرر اكثر من مرة في التاريخ، اذ لعب القبارصة اليونانيون دورا خطيرا في تثبيت الحضور الصليبي في عكا والساحل السوري لمائة عام، ثم تحول الى تهديد لمصر والشام لما يقارب المائتي عام الى حين تمكن سلطان مصر المملوكي برسباي من سحق مملكة قبرص التي كان يتسمى ملوكها بملوك (القدس وعكا)، ففي العام 1426 تمكن سيف الدين برسباي من اقتحام ليماسول و نيقوسيا منهيا خطر محدق بالمشرق وشواطئ الشام ومصر التي تعرضت لهجمات وحشية من القبارصة ومخلفات الصليبيين حينها.
يكرر القبارصة اليونانيون الخطاء التاريخي على نحو بائس هذه المرة مع الكيان الإسرائيلي الذي لازال محاصرا في ساحل فلسطين بعد ان فشل في التوسع في سوريا ولبنان كسابقيه الصليبيين، علما ان تحالف قبرص واليونان هذه المرة لن يسهم في توسعة شرقا او شمالا او جنوبا في المشرق، ذلك انه يتوسع داخل اليونان وقبرص واثينا حيث إسرائيل الصغرى تقبع اليوم في العاصمة أثينا وتضم مهاجرين إسرائيليين من فلسطين.
الاسوء من ذلك ان تحالف أثينا ونيقوسيا مع الاحتلال الإسرائيلي موجه هذه المرة ضد تركيا ، وهو يحمل في توقيته دلالات سلبية لا تخدم قبرص او اليونان بعد المجازر الوحشية التي ارتكبها الاحتلال ولازال في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان و في سوريا كذلك بين الحين والأخر كان اخرها مجزرة بيت جن بالقرب من مدينة القنيطرة السورية .
تركيا كانت قد نشرت منظومة دفاع جوي متقدمة في الجزء التركي من قبرص لمراقبة تحركات سلاح الجو الإسرائيلي الذي اعتاد خرق الأجواء اللبنانية والسورية، وتسبب بمجازر وتدمير بنى تحتية مهمة في سوريا ولبنان، وهو اليوم يتهدد تركيا بفتح الباب لإمكانية اشعال شرق المتوسط بأكمله، فالكيان الإسرائيلي يرى في تركيا عدوا وخصما بعد ايران ومصر يسعى الى تحييده ، وفي الان ذاته ، يورط اليونان وقبرص ويحلوها لملاذ لمجرمي الحرب، و يهدد المصالح المصرية بعيدة المدى في سيناء و السويس و البحر الأحمر أيضا .
المتحدث باسم الجيش التركي زكي أكتورك أوضح اليوم الخميس موقف تركيا من السياسات التوسعية الإسرائيلية شرق المتوسط بالقول: أن سياسة إسرائيل التوسعية في المنطقة وعملياتها تهدد السلام والاستقرار الإقليميين، في إشارة الى الاعتداءات المتكررة في سوريا ولبنان، مذكرا أن عرقلة "إسرائيل” للمساعدات الإنسانية في غزة تنتهك اتفاق وقف إطلاق النار، وهي تصريحات تزامنت مع توضيحات من المتحدث حول اسقاط تركيا لمسيرة حربية ضلت طريقها في البحر الأسود تجاه الأراضي التركية قادمة من مناطق القتال في أوكرانيا.
ختاما .. تحركات اليونان وقبرص والكيان الإسرائيلي و تصريحات اكتورك تلخص طبيعة المرحلة المقبلة بانزياح خرائط الصراع قبل اوانها، و على نحو يذكرنا بما حدث عقب استرداد الاشرف بن قلاوون عكا حيث فر الصليبين نحو قبرص، واليوم يتبعهم الإسرائيليين فرارا من فلسطين الى أثينا التي تضم في احشائها "إسرائيل الصغرى” ، فهل طوفان الأقصى ارتقى الى هذا المستوى، ام ان الاحتلال يستبق الاحداث مسافرا عبر الزمن في اضطراب جيئة وذهابا، تارة بالهجرة الجماعية، وتارة باستحضار التحالفات الفاشلة التي اثبت التاريخ عدم جدواها.