يشهد الشرق الأوسط تحولاً عميقا بعد حرب غزة، إذ تتراجع هيمنة إسرائيل ويتبدل ميزان القوى الإقليمي بين صعود الدور العربي وتراجع الثقة بالتفوق الإسرائيلي.
واشنطن- يشهد النظام الإقليمي في الشرق الأوسط تحولات متسارعة، لكنها لا تسير بالضرورة في الاتجاه الذي افترضه الكثير من المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين.
ونجحت المبادرة التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة في تحقيق اختراق كبير تمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين الأحياء ووقف القتل والدمار في القطاع، ما أثار موجة من التفاؤل بشأن إمكانية ولادة نظام إقليمي جديد، رغم الغموض الذي يلفّ مستقبل هذا التحول واحتمالات استدامته.
وتتطلع بعض الحكومات العربية إلى اختبار فرص التطبيع مع إسرائيل، شرط أن تضمن خطة ترامب منع تهجير الفلسطينيين وعدم ضم الضفة الغربية.
وبالنسبة إلى تلك الدول، يشكل الضغط العربي على حركة حماس للقبول بصفقة ترامب مؤشراً على إمكانية عودة ملف التطبيع إلى الواجهة. غير أن هذا التفاؤل يصطدم بقراءة أكثر تشكيكاً.
ويرى الباحث الأميركي مارك لينش في تقرير نشرته مجلة "فورين أفيرز” أن اتفاق غزة، حتى لو صمد، لن يضمن دوام التقارب الأميركي – الإسرائيلي، لأن الاعتقاد الإسرائيلي الراسخ بالتفوق الدائم سيقودها إلى ممارسات استفزازية تتحدى أولويات واشنطن مباشرة.
كما أن دول الخليج التي تراهن إسرائيل على ضمها إلى محور التطبيع باتت أقل اقتناعا بقدرتها على حماية مصالحها الإستراتيجية، وأقل تحمسا لمواجهة إيران، بعدما أدركت أن الطريق إلى واشنطن لم يعد يمر عبر تل أبيب.
وفي المقابل تبدو إسرائيل غير واعية بمدى تقارب ترامب نفسه مع هذه الدول الخليجية.
ويشير لينش إلى أن ما يحكم عقل المؤسسة الأمنية والسياسية في إسرائيل هو "التفكير بالتمني” الذي تجسد بوضوح في الإفراط في استخدام القوة منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023.
وشنت إسرائيل عمليات تدمير شامل لغزة، وتجاوزت كل الخطوط الحمراء التي حكمت الصراع الإقليمي طيلة عقود، واغتالت شخصيات بارزة كان يُعتقد أنها محصّنة، مثل حسن نصرالله وإسماعيل هنية وعدد من القادة العسكريين الإيرانيين في سوريا، وحتى رئيس الوزراء الحوثي في اليمن.
وتوجت هذه العمليات بضرب مواقع نووية وعسكرية في إيران، في ما بدا كأنه محاولة لإعادة رسم ميزان القوى في المنطقة بالقوة.
لكن نقطة التحول جاءت مع القصف الإسرائيلي لمقر قيادة حركة حماس في الدوحة، والذي اعتُبر محاولة فاشلة لاغتيال قادتها.وصدم هذا الهجوم واشنطن والعواصم العربية على حد سواء، ودفع ترامب إلى الاعتقاد بأن إسرائيل تجاوزت الخطوط الحمراء.
وتختزل الصورة الرمزية التي وثقت المشهد، حيث بدا ترامب عابسا وهو يشاهد نتنياهو يقرأ اعتذارا مكتوبا لأمير قطر، تحول المزاج الأميركي والإقليمي تجاه إسرائيل.
ورغم الغضب الأميركي لا يزال من غير الواضح إن كان ذلك سيترجم إلى تغييرات جوهرية تتجاوز وقف إطلاق النار الحالي.
ويرى لينش أن مصلحة إسرائيل تقتضي التراجع عن حافة الهاوية، واستثمار الهدنة لتقليص مغامراتها العسكرية، والانخراط بجدية في مسار يقود إلى قيام دولة فلسطينية.
وكشفت الحرب الطويلة هشاشة القوة الإسرائيلية: منظومتها الدفاعية الصاروخية لم تؤمن حماية كاملة، واقتصادها يعاني من حرب استنزاف مكلفة، ومشهدها الداخلي يزداد انقساماً، بينما يظل جيشها معتمداً على الدعم الأميركي. ودفعت حرب غزة إسرائيل نحو عزلة متزايدة، حتى بين أقرب شركائها.
ويشير لينش إلى أن إسرائيل لا تستطيع قصف الشرق الأوسط كله لفرض نظام جديد، لأن القيادة الإقليمية تتطلب قبولاً من الآخرين، لا مجرد تفوق عسكري. واليوم، لا توجد دولة عربية مستعدة لقبول قيادة إسرائيلية للإقليم، بل إن الخوف من سلوكها أصبح عاملاً موحِّداً للدول التي كانت حتى وقت قريب منفتحة على التطبيع.
وفي المقابل هناك في واشنطن تيار يرى أن إسرائيل يمكن أن تواصل تدمير خصوم الولايات المتحدة بالوكالة، لكن هذا الرهان محفوف بالمخاطر لأن مصالح تل أبيب لا تتطابق مع مصالح واشنطن، وغالباً ما تدفع الولايات المتحدة ثمن مغامرات إسرائيل السياسية والعسكرية.
وتجاوزت طموحات إسرائيل لإعادة تشكيل المنطقة حدود الواقعية. فعلى الرغم من موجات العنف والاضطرابات، ظل النظام الإقليمي الشرق أوسطي مستقراً نسبياً خلال العقود الثلاثة الماضية.
وحتى التحولات الكبرى -من الغزو الأميركي للعراق عام 2003 إلى الربيع العربي عام 2011- لم تغيّر بشكل دائم هيكل القوة الإقليمي، الذي ما زال يقوم على هيمنة أميركية متراجعة وانقسام حاد بين محاور متنافسة.
ومع تراجع النفوذ الأميركي بعد كارثة العراق والأزمة المالية عام 2008، لم تتمكن أي قوة أخرى من ملء الفراغ. فروسيا التي فقدت آخر حلفائها بعد سقوط نظام الأسد عام 2024 باتت غائبة، والصين رغم صعودها الاقتصادي وشراكاتها الضخمة لم تطرح بديلاً جيوسياسيا حقيقيا عن النظام الذي تقوده واشنطن.
لكن حرب غزة الأخيرة أعادت إحياء مركزية القضية الفلسطينية في الوعي العربي الرسمي والشعبي. فالقادة العرب، الذين يتوجسون من أي موجة احتجاج جديدة، أدركوا عمق الغضب الشعبي من سياسات التطهير والتدمير الإسرائيلية.
وعكست إعادة السعودية التأكيد على مبادرة السلام العربية -التي تربط التطبيع بإقامة دولة فلسطينية- هذا التحول بوضوح.
وقد بدت شروط وقف إطلاق النار في غزة منسجمة مع المواقف العربية أكثر من كونها استجابة للرؤية الإسرائيلية.
ومع ذلك، فإن تفوق إسرائيل العسكري ورضوخ بعض الأنظمة العربية لا يضمنان قيام نظام إقليمي مستدام.
وفشلت إسرائيل في بناء أي شعور مشترك بالهدف أو التهديد مع جيرانها. ونسفت سياساتها في غزة والضفة الغربية أي إمكانية لحل الدولتين، كما أن ضرباتها التي استهدفت قطر وتهديداتها لمصر والأردن جعلت منها خطراً على الأنظمة العربية أكثر من كونها شريكا أمنيّا.
ومع انحسار النفوذ الإيراني إثر الضربات الإسرائيلية، فقدت إسرائيل الذريعة التي كانت تبرر بها تحالفاتها الأمنية مع الخليج.
ويبيّن لينش أن إسرائيل تبالغ في تقدير قوتها. فمهما بلغت قدراتها الجوية والتقنية يظل جيشها غير قادر على احتلال أراضٍ جديدة تتجاوز ما تسيطر عليه منذ 55 عاما.
ورغم نجاحها في تنفيذ اغتيالات وضربات محددة، فإنها لم تحقق أي هدف من أهدافها الإستراتيجية الكبرى: فحماس لا تزال القوة الأبرز في غزة، وحزب الله لم يُجبر على نزع سلاحه، والحملة الإسرائيلية على إيران فشلت في تدمير برنامجها النووي وفي إثارة تمرد داخلي ضد النظام.