في فلسطين، كما في كثير من المجتمعات التي تعيش تحت ضغط سياسي واقتصادي واجتماعي خانق، يجد الشباب أنفسهم محاصرين بين انسداد الأفق وفرص عمل نادرة. ومع تراجع قدرة القطاع العام على الاستيعاب، وضعف القطاع الخاص أمام التحديات، أصبحت "الريادة" منفذًا شبه وحيد. غير أن هذه الريادة غالبًا ما تنطلق من الضرورة لا من الإبداع، فتتحول إلى مشاريع صغيرة وضيقة، هدفها تغطية تكاليف المعيشة، لكنها نادرًا ما تصمد طويلًا أو تترك أثرًا اقتصاديًا حقيقيًا.
من هنا، يصبح التفكير في نقلة نوعية ضرورة لا خيارًا، كيف ننتقل من "الريادة الفردية من أجل البقاء" إلى "الابتكار الجماعي من أجل التغيير"؟
قراءة الواقع كما هو
البداية دائمًا من الاعتراف بالحقيقة، معظم المشاريع الصغيرة في فلسطين تنطلق نتيجة غياب البدائل، بطالة عالية، غياب ضمانات العمل، تكدس خريجين بلا فرص. ريادة بحكم الضرورة، وليست نتيجة تخطيط استراتيجي.
لكن هذه المشاريع تصطدم بسقف منخفض، منافسة غير عادلة مع المنتجات المستوردة، انعدام التمويل المرن، غياب التشبيك، وقصور في الحماية القانونية. النتيجة أن أغلبها يتلاشى بعد أشهر قليلة.
إذن، الوعي بهذه الحقيقة ليس دعوة للإحباط، بل للانتقال إلى تفكير جديد: كيف نكسر الحلقة؟
من الفردية إلى الجماعة/التعاون
المشاريع الفردية تشبه محاولات السباحة ضد تيار عاصف، أما التعاون فهو قارب مشترك يضمن وصولًا أبعد.
الريادة الجماعية (Collective Entrepreneurship) ليست فكرة مثالية، بل ممارسة ممكنة وملموسة: تعاونيات إنتاجية، حاضنات مجتمعية، مساحات عمل مشتركة، ومنصات رقمية تجمع المهارات. في هذه النماذج، يتحول الأفراد من منافسين متفرقين إلى شركاء منظمين.
ولنا في الواقع أمثلة محلية: تعاونيات زراعية نسائية في الضفة، منصات رقمية شبابية للتسويق الجماعي، وشبكات حرفية أعادت إحياء مهن تقليدية. هذه النماذج تثبت أن العمل الجماعي ممكن، وفعّال، وقابل للتوسع.
ذكاء استثمار الموارد
الابتكار لا يساوي بالضرورة تكنولوجيا متقدمة أو تمويلًا ضخمًا. أحيانًا، هو ببساطة إعادة استخدام ما هو متاح بطريقة جديدة.
فلسطين تملك رأس مال بشري متعلم ومرن، وموارد طبيعية محدودة لكنها قابلة للاستثمار الذكي. من الزراعة الذكية في مساحات ضيقة، إلى الاقتصاد الرقمي الذي يتجاوز الحدود، يمكن تحويل القيود إلى فرص.
بدل انتظار المنح الخارجية المشروطة، يمكن إطلاق شبكات تمويل جماعي محلية (Crowdfunding)، أو بناء شراكات بين الجامعات والقطاع الخاص لتوليد حلول ابتكارية.
دمج منظور النوع الاجتماعي
أي تحول اقتصادي لا يشمل النساء سيبقى ناقصًا وضعيفًا. النساء الفلسطينيات أثبتن حضورهن في مختلف المجالات، لكنهن غالبًا يُتركن في الهامش عند اتخاذ القرارات أو قيادة المشاريع.
إشراك النساء ليس واجبًا أخلاقيًا فحسب، بل استراتيجية ذكية. الدراسات تؤكد أن المشاريع التي تقودها فرق متنوعة (نساء ورجال) تكون أكثر ابتكارًا واستدامة.
دمج منظور النوع الاجتماعي في الريادة الجماعية يعني ضمان حصص مشاركة عادلة، توفير تدريبات متخصصة، خلق مساحات آمنة للنساء، والتشبيك بينهن وبين الأسواق.
أفق مستقبلي للابتكار
لكي يصبح الابتكار الجماعي قاعدة لا استثناء، يجب أن يرافقه تغيير في البيئة الحاضنة. هذا يشمل:
• سياسات داعمة: قوانين تشجع التعاونيات والمشاريع المشتركة، بدل الاكتفاء بتمويل مشاريع فردية متفرقة.
• بنية رقمية متينة: منصات محلية للتسويق، المدفوعات، وإدارة المشاريع عبر الإنترنت.
• شراكات استراتيجية: ربط الجامعات بالقطاع الخاص والمجتمع المدني، لبناء دوائر متكاملة من البحث الى التطبيق الى التسويق.
المستقبل لن يُبنى دفعة واحدة، بل خطوة بخطوة.
إن التحول من الريادة الفردية بحكم الضرورة إلى الابتكار الجماعي، ضرورة تاريخية. الخطوات واضحة: وعي بالواقع، تعاون بدل فردية، استثمار ذكي للموارد، عدالة جندرية، وأفق مستقبلي مرسوم.
التغيير لا يأتي عبر قفزات مفاجئة، بل عبر مسار طويل وصبور. وربما تكون رسالتنا الأعمق هي، فلنبتكر معًا بدل أن نكافح وحدنا.