منذ ان طرح بلفور وعده المعروف قبل اكثر من قرن مستندا لاستشراف يشير الى هزيمة الدولة العثمانية ضمن دول المركز ، ومدفوعا بدلالات اتفاقية سايكس بيكو ، بدأ المشروع الصهيوني يحقق نتائج متتابعة بصعوبة احيانا وبيسر أحايين أخرى، وتم تقسيم فلسطين 1947، ثم احتلالها كلها عام 1967 الى جانب أراض عربية أخرى.
واللافت للنظر في نص وعد بلفور هو الاشارة الى ان الوعد " لا ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير الدينية المقيمة في فلسطين" ، وهي اشارة الى الشعب الفلسطيني من مسلمين ومسيحيين ودروز ، لكن النص لا يشير الى "الحقوق السياسية" ، اي ان الفلسطيني في فلسطين سيتحول من مواطن الى "مقيم".
وما أن تم التقسيم عام 1947، حتى بدأت فكرة " الدولة اليهودية النقية من غير اليهود " تترسخ تدريجيا مع تتالي الانتصارات الاسرائيلية من تلك الفترة الى الآن، ورغم الرفض العربي اللفظي أحيانا وبعض العملي احيانا أخرى ، كان العرب في كل مرحلة ينسون المراحل السابقة ويتعاملون مع مشاريع اللحظة دون ادراك للترابط بين مراحل المشروع الصهيوني، فوعد بلفور تم تناسيه مع قرار التقسيم، وتم نسيان التقسيم مع قرار 242 ، وتم الاخذ بالتفسير الاسرائيلي لقرار 242 مع اتفاقية كامب ديفيد 1979، وتواصل التطبيع الذي يتناقض تناقضا كليا مع كل الأدبيات السياسية العربية منذ بلفور، لندخل مرحلة جديدة وهي "أين نذهب بسكان فلسطين من العرب ؟" وهي المرحلة التي نعيشها الآن.
وهنا يُقرع الجرس وبقوة، فطرح فكرة نقل الفلسطينيين الى سيناء والاردن لا يجوز التعامل معها على انها تكتيك سياسي اسرائيلي، بل هي خطة استراتيجية يجري التحضير لها في كل دول الجوار القريب والبعيد ، فالحديث يدور حول "ريفيرا ترامب"، والوطن البديل، ودمج المهاجرين الفلسطينيين في اماكن تواجدهم، وتقليص او حجب المساعدات عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، والحديث عن تهجير لبعض الدول الافريقية، ومناقشة احتمالات التهجير الى كندا واستراليا، ويدرك العقل الصهيوني ان امام تحقيق هذا الهدف صعوبات محلية واقليمية ودولية، لكن نجاح الصهيونية في السابق في اغلب ما خططت له، يجعلها تدرك انها ستنجح، فنيتنياهو يسابق الزمن لمنع اي طرح لحل الدولتين(مع كل أوزار هذا الحل)، فغذا تم التهجير بنسبة عالية ،فمع من ستقوم الدولة؟ وهو ما يفسر تسارع الاستيطان.
ودعوني اقف عند الملاحظة التالية: ان تزايد عدد المستوطنين وتزايد مساحات الاراضي التي يستولون عليها في الضفة الغربية يشير لا الى تزايد خطي او تربيعي او حتى تكعيبي ، بل هو "تزايد أسي"(Exponential )، سيقود في نهاية المطاف الى التهجير القسري او الطوعي.
ولتحقيق هدف التفريغ فان الامر –من منظور صهيوني يتبناه نيتنياهو تبنيا ً مطلقا- لا بد من ترتيب الجوار الجغرافي من خلال نفس المسار الذي صبغ المرحلة من بلفور الى كامب ديفيد، ويقوم على الاسس التالية:
أ- تحطيم اية قوة تريد مقاومة التهجير ، والتحطيم سيتم إما بالقوة العسكرية لمن لا يستجيب او بالغواية( من خلال ضمان اسرائيل والدول الغربية امن النظم السياسية المستجيبة ، أو تقديم المساعدات باشكالها المختلفة)
ب- العمل على جغرافيا سياسية جديدة للشرق الاوسط من خلال:
1- تحريك الثقافات الفرعية في المنطقة او ما تسميه بعض الادبيات الاسرائيلية ب "حلف الضواحي"، وعندما نَشرتُ قبل حوالي بضعة شهور مقالا بعنوان "وداعا لسوريا" وهو ترجمة لمقال نشره معهد الامن القومي الاسرائيلي وكتبه جدعون ساعر قبل عشر سنوات(اي قبل ان يكون ساعر هو وزير الخارجية الحالي بفترة طويلة)، وفي المقال يعيدنا الوزير "ساعر" الى التفكير في سايكس بيكو ولكن برؤية اكثر تحديدا، مشيرا الى تقسيم سوريا الى دولة درزية (على حدود الاردن) واخرى كردية في الشمال وثالثة علوية على الساحل ودولة سنية في الوسط الجغرافي ويقول ساعر قبل 10 سنوات وقبل سقوط الاسد) ما يلي" لا بد ان نعترف بان سوريا الدولة ذات السيادة والحدود المعترف بها لم تعد موجودة ،ولن تنشأ فيها حكومة مركزية فعالة ( النص باللغة الانجليزية:
Gideon Sa'ar and Gabi Siboni-Farewell to Syria-INSS Insight No.754,Oct.13.2015
اما الترجمة العربية فهي على صفحتي بتاريخ 4 يناير 2025.
2- ان الوظيفة التي يراها ساعر لدولة درزية على حدود الاردن هو أن تكون هذه الدولة (التي كان لها سابق تاريخي عام 1922) هو ان هذا المشروع سيجد مساندة دولية واقليمية وسيكون " حاجزا بين الاردن جنوبا والنظام السني المتطرف في وسط سوريا"(هذا حرفيا ما كتبه وزير الخارجية الاسرائيلي الحالي.)، لكن الزهايمر العربي يبحث عن تفسير آخر.
مرة أخرى يتجدد الزهايمر السياسي العربي ، ولكم اود أن اشير الى ظاهرة تستحق التأمل، فحزب البعث العربي الذي حكم كلا من العراق وسوريا لعقود تحت شعار الدعوة الى الوحدة العربية انتهى بدلا من الوحدة الى "بلدين تمزقت وحدتهما الوطنية نفسها اكثر من اية دولة عربية أخرى وأقفلتا ملف الوحدة العربية" ، والناصرية التي حلمت بوحدة عربية تقودها مصر انتهت الى عزلة مصرية عن الشأن العربي بل وحتى عن الشأن المحلي ، وتراجعت الى المرتبة 112 عالميا، واليمن اصبح يمن شمالا وجنوبا مرة اخرى، والمغرب العربي ليس بعيدا عن التمزق الداخلي(ليبيا وتونس) بل أن الصدام بين وحداته قريب ،ويكفي الاشارة الى ان اعلى دولتين في افريقيا في معدلات الانفاق العسكري هما الجزائر والمغرب وهو ما يذكر اهل الزهايمر بنموذج ريتشاردسون لسباق التسلح ، والسودان مشغول بأوسه وخزرجه، وعدو الاخوان المسلمين الآن هم حلفاؤها بالامس القريب ...ويكفي ان اذكر ان الاقليم العربي يحتل المرتبة الاخيرة في 12 مؤشرا مركزيا بين اقاليم العالم التسع لكنه يحتل المرتبة الاولى في معدل الانفاق العسكري الى اجمالي الناتج المحلي.
ان ما تعيشه المنطقة العربية في تاريخها المعاصر هو تعبير واضح عن اتجاه تاريخي أعظم ، بدأ بوعد بلفور (اقامة دولة لليهود) ويقف الآن عند مشروع نيتنياهو " لإقامة شرق اوسط جديد" يقوده هو ، وسيتواصل الزهايمر ، ويكفي ان تراقبوا رد الفعل العربي المتناقص تجاه تزايد الضحايا في غزة، وان تراقبوا ان من يقود الدبلوماسية العربية هم من بشرونا "بالربيع العربي" ، ولكن الزهايمر السياسي أتاح لهم الدور مرة أخرى لقيادة التطبيع وتعزيز الاتجاه الاعظم ..ربما.







