في بقعة ضيّقة من هذا الكوكب المريض، في غزة التي صار اسمها مرادفاً للرماد، ووجعاً لا تنفد سحب دخانه، ولد توأمان.
جاءا إلى هذا العالم، كما يولد كل الأطفال: بصرخة، بنبض هشّ، بحلم فطري بالدفء، بالحنان، بالحليب.
توفيق ونيا. طفلان صغيران لا يدركان بعد أن اسميهما سيكونان شاهدين على مجاعة القرن في عصر التخمة، وعلى كرامة ممزوجة بالعدس، في زمن تكاثرت فيه التماسيح البشرية.
في فيديو قصير لا يتعدى الدقيقتين، ظهرت أمهما بثوبها الأسود المزهر، وكمامة بالكاد تحجب عينيها المنهكتين. كانت تحمل أحد التوأمين بين ذراعيها، بينما القنينة التي أمامها لا تحوي حليباً، بل مرق العدس.
مرق العدس. كلمة بسيطة، لكنّها تنغرس في الروح كشوكة من نار. أن يقدّم لطفل رضيع، بدل الحليب، «ماء العدس المسلوق»، لأن لا خيار آخر. لا شحنات وصلت. لا معابر فتحت. لا دواء، ولا غذاء، ولا رحمة من هذا العالم.
كان من المفترض أن تكون تلك القنينة رمزاً للحياة، للغذاء، للحبّ السائل الذي يتسلل من فم الأم إلى فم الرضيع. لكنها، في غزة، تحولت إلى رمز للإذلال المكرس.
في بيتهم الذي فقد نوافذه، وربما حتى سقفه، جلس التوأمان. لا يعرفان لماذا يختلف طعم «الحليب» اليوم. لا يفهمان لماذا وجوه الكبار مثقلة، ولماذا عيونهم لا تنام. لكن أجسادهم تعرف.
لم يكن هذا المشهد مجرّد لقطة من الحرب. إنما كان صفعة في وجه الإنسانية الصامتة. فالعدس، تلك البذرة المتواضعة التي اعتاد الفقراء في كل الأرض أن يطبخوا بها، تحول إلى حليب اضطرار لطفلين يبدوان أصغر من أن يفهما معنى الاحتلال، أو الحصار، أو حتى كلمة «غذاء بديل».
والأم، في صبرها الذي لا يعرف حدوداً ترج القنينة برهبة كأنها تحمل روحاً. ثم تقربها إلى فم أحد التوأمين، بحنان يربك السماء.
من أين تأتي هذه القدرة الخارقة للنساء في غزة على الاستمرار؟ على تحويل المستحيل إلى احتمال؟ على الرضا بما لا يرضى، وتقديم ما لا يقدّم، والمضي دون وعد قريب؟
ربما لأنهن أدركن مبكراً أن العالم لا يملك لهن شيئاً، وأن الكرامة الوحيدة الباقية، هي أن يبقين، أن يرضعن، حتى ولو كان الحليب… مرق عدس.
تخيّلوا قنينة حليب، فيها العدس. ليس لبناً صناعياً، ولا طبيعيًا، ولا حليب أم. عدس.
وطفل يتعلق برقبة القنينة كأنها حبل نجاة. ومعدته الفارغة تتلقف هذا السائل كأنه وعد الحياة.
في ذلك المشهد، لم تكن المشكلة في فقدان منتج، بل في انهيار منظومة. لم يكن وجع الأطفال وحده، بل فضيحة العصر بأكمله.
منذ متى صار الطفل مشروع شهيد، أو متسوّل غذاء، أو ضحية عدس في قنينة بلا لون ولا طعم؟
نيا وتوفيق… يا صغيري العدس.
لا ندري أي مستقبل ينتظركما، إن كتب لكما النجاة.
هل ستتذكران طعم هذا السائل المر؟
أم أنّكما، ككل أبناء غزة، ستكبران بأمعاء حديدية، وقلوب لا تعرف غير الكرامة، رغم الجوع؟
غزة ليست قصة دم فقط. هي قصة جوع.
هي أم تهز قنينة عدس. هي رضيع يبحث عن حلم أبيض في فم صغير، ويجد طعم التراب.
هي نفس أخير يترك على قيد الحياة فقط ليثبت أننا ما زلنا نفشل، كل يوم، في أن نكون بشراً. ما ذنب هؤلاء الأطفال؟
ما ذنب أمهم التي لا تجد حليباً ولا دواء؟
ما ذنب كل هؤلاء الرضع الذين ولدوا على هامش السياسة، وجعلوا من الجوع وسادة، ومن مرق العدس نعمة؟ لو كان للعدس صوت، لبكى.
لو كانت للقنينة ذاكرة، لأرخت هذه اللحظة: يوم تحوّلت من وعاء للحياة، إلى رمز للخذلان.
ولكن التوأمين لم يبكيا كثيراً. بل ناما، تعباً، جوعاً، أو ربما احتجاجاً هادئاً على عالم لا يستحق صوتهم. في غزة، لا تنتهي المآسي، لكنها تتحوّل. من صاروخ إلى قنينة. من أنقاض إلى أم تبحث عن الحليب فلا تجده.
وفي كلّ هذا، يظلّ العدس يسيل في القنينة، شاهداً على الصمت العالمي، وعلى الكرامة التي لا تقهر، ولو جاعت.
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة إن صمتنا
كانت الشمس ترخي بظلالها الذهبية على وجه بيروت، حين وطأت قدماها أرض المطار. صوت الطائرة المتراجع كان كأنه همس خافت ينذر بصمت أكبر آت.
لمى الأمين، تلك المرأة التي تحمل في ملامحها كل ما في هذا البلد من تناقضات: لبنانية الدم، افريقية الملامح، عالمية الحضور، هاربة من عبث التعريفات الجاهزة.
نزلت من الطائرة بابتسامة هادئة، قلبها معلق ببيروت التي لم تخذلها يوماً، أو لعلها خذلتها ألف مرة، لكنها ككل بنات البلاد، تسامح.
حتى تلك اللحظة، لم تكن تعرف أن شيئاً صغيراً كعبارة: «أنت يا أثيوبية.. روحي وقفي هونيك»، قادر على أن يسحب من قلبها كل ما تركته من حب لهذا المكان.
«أنا لبنانية»، ردّت عليه لمى، بنبرة ثابتة ووجه مصدوم.
لم يكن الردّ عادياً، ولم يكن اعتراضاً بسيطاً على خطأ في الجنسية. كان صرخة في وجه منظومة كاملة من الظلال العنصرية التي تعشش في الزوايا الدفينة من الكلام، في التعابير، في النظرات، في التعاملات اليومية.
«أنا لبنانية.. ومش كل السود هني أثيوبيين، ومش كل اللبنانية لازم يكونوا بيض».
لم يكن الحديث عن هويةٍ فحسب، بل عن جرحٍ يتكرّر، عن سكينٍ تُغرس ببطء في روح كل من لا يُشبه «الصورة النمطية» للبناني الأبيض، الأشقر، «المقبول اجتماعياً»
فلمى لم تكن ضحية لحظة فقط، إنما مرآة لتاريخ طويل من التمييز، لم يكن ينقصه سوى وجه جديد، ومطار جديد، ليظهر من جديد.
قالت بوضوح: «ما بدّي شي، بس بدي قانون، بدي حماية، بدي حدا يقول إنه يلي صار معي غلط».
هل هذا كثير؟ أن يطلب مواطن أن يعامل بكرامة؟ ألا يهان بسبب لون بشرته؟ ألا يختزل تاريخه، وهويته، وكيانه، بجنسية مفترضة أو وظيفة نمطية في عقل الآخر؟
اللافت في كلام لمى لم يكن المضمون وحده، بل النبرة.
تخيلوا ذلك المشهد: امرأة تقف في مطار بلادها، وينظر إليها وكأنها دخيلة فقط لأنها داكنة البشرة.
كأن الجواز الذي تحمله لا يعني شيئاً. كأنها غير مرئية إلا عبر عدسة واحدة: اللون.
ألا تستحق هذه المرأة اعتذاراً؟ ألا تستحق هذه البلاد أن تواجه نفسها وتعتذر من جميع من هم مثل لمى؟
فالعنصرية لا تبدأ بالشتيمة، بل حين نضحك على النكات العنصرية، حين نمرّ بجانب مواقف مهينة ونصمت، حين نتعامل مع الإنسان وكأنه مجرد «تصنيف».
ما تطلبه لمى ليس الكثير. هي لم تطالب بإقالة أحد، لم تهتف ضد الدولة، لم تزرع كراهية. بل نادت بشيء واضح وصريح: قانون يحمي من التمييز العنصري.
قانون يجعل من هذه الحوادث خرقاً لكرامة المواطن.. قانون يعلّم رجال الأمن، وكل من في مواقع السلطة، أن كرامة الناس لا تمسّ. أن الشكل لا يحدّد الهوية، وأن الانتماء ليس لوناً، ولا لهجة، ولا نمطاً خارجياً.
ربما، يومًا ما، سيقرأ طفل لبناني هذه القصة في كتاب مدرسي عن «الكرامة والعدالة». ربما، سيتعلّم أن لون البشرة لا يحدّد مواطَنة أحد، وأن الكلمة الجارحة لا يمكن أن تمر مرور الكرام.
ربما، ستكون قصّة لمى الأمين نقطة تحول، ولو صغيرة..
وربما، فقط ربما، سيكون لدينا وطن، يعامل كلّ أبنائه كأبناء، لا كغرباء.