لا أعرف إن كنت قد وُلدت مرةً أم مرتين. لكنني أذكر أنني متُّ يومًا، ثم عُدت. ذاك الصباح لم يكن كباقي الصباحات. الشمس كانت أقرب من المعتاد، وكأنها تتلصص على أسرارنا، تبحث عن شيء ضائع في عيوننا الصغيرة. كنت أمتلك من عمري بضع أنفاس قبل أن أطفئ شمعتي الثامنة، ولم تكن ذاكرتي قد قررت بعد أن تبدأ عملها. لكنها، في لحظة واحدة، اشتعلت، وفتحت أبوابها كقصر قديم استيقظ من سباته، وبدأتُ أسير فيه وحيدًا.
صويلح — تلك القرية التي تتكئ على كتف الجبل كشيخٍ حكيم، وتوشوش الغيم قصصها — لم تكن مجرد مكان. كانت معبرًا بين عالمين. ترابها لا يُشبه تراب المدن، وجدرانها لا تعرف الطلاء، بل تعرف الحكاية. وكل حجر فيها يحتفظ بسرٍ، أو دمعة، أو صرخة.
أكتب عن هذا الآن لأنني كنت في حديث مع صديقٍ قديم، نستعيد فيه شتات أيام الصبا، ونحاول أن نلملم منها ما تبقّى فينا من دهشة الطفولة. تطرقنا إلى لحظةٍ بعينها، تلك التي شعرتُ فيها أنني عبرت من عالمٍ إلى آخر، من الغياب إلى الحضور، من العتمة إلى الوعي. وتساءلنا كيف لتفصيلة صغيرة في الذاكرة أن تُعيد تشكيل شعورٍ كامل. كنا نضحك، ثم صمتنا، وقلنا: كم تغيّر الواقع. التقدّم العلمي والتقني غيّر ملامح الطفولة، سَرق من الأشياء بساطتها، وزرع مكانها صورًا مُعالجة، مصفّاة، بلا رائحة ولا صوت. ربما لهذا أكتب، كي لا تندثر تلك اللحظة، وكي أترك للذاكرة نافذةً مشرعة على قريتي الأولى، وعلى صباحٍ لم يكن كباقي الصباحات.
في ذلك الصباح، قيل لنا "ارتدوا الأبيض." ولم نكن نعلم أن الأبيض يمكن أن يكون لون العبور، لون الذبح، لون الصمت. كنا ثمانية عشر طيفًا بشريًا، في العر ما بين أربعة وعشرة أعوام نحمل أسماءً قصيرة وأحلامًا أطول. أطفالًا بنكهة اللبن وخوفٍ لم يُسمّ بعد.
اصطففنا في ساحة رمليّة، بلا ظلّ، بلا رحمة. كانت الرمال تحترق تحت أقدامنا، لكن الخوف كان أبطأ من الحريق. هناك، بجانب ما يعرف اليوم بالجمعية الشركسية، وقفنا كحملان مقدّسة، ننتظر الجلاد.
ثم ظهر هو...
لم يخرج من بابٍ ولا من طريقٍ مألوف. بل كأن الأرض نفسها انشقّت عنه، وكأن الزمن استدعاه من فجوة قديمة في ذاكرة القرية. لم يكن يمشي، بل ينساب، كظلٍّ تعلم كيف يُخيف الضوء. كان طويلاً على نحوٍ غير مريح، نحيفًا كأن الجوع عاش في عظامه قرونًا، ومع ذلك، بدا كائنًا لا يعرف الجوع، بل يُشبَع من ألم غيره.
هو؟ من هو؟
لم يكن طبيبًا، لم يحمل شهادة ولا سُمعة. لم يكن حلاقًا، رغم أن في يده موسى. لم يكن راهبًا، رغم صمته المخيف، ولا جلادًا رغم دقة يده في الذبح. لم يكن أي شيء... ولم يكن "لا شيء". بل كان كيانًا من تلك الكيانات التي تخرج من الكتب القديمة، من الأساطير المحرّمة، من الهلاوس التي تأتي للناس حين ترتفع الحمى فوق الأربعين.
وجهه لم يكن وجهًا بل قناعًا من حجر. بلا ملامح، بلا مشاعر. مزيجٌ غريب بين مومياء فرعونية واستحضارٍ شيطاني. عيناه سوداوان، لا لبياض فيهما ولا بريق، فقط هوّة، كأن من ينظر فيهما يسقط في بئرٍ لا قاع لها. عينه اليمنى كانت كجرح قديم لم يندمل، أما اليسرى، فكانت كأنها تُبصر أزمنةً لا نراها. كأنه دراكولا الشرق، لا يمتص الدم من العنق، بل من الروح مباشرة. لا يختبئ من الشمس، بل يحوّلها إلى برد. لا يطير في هيئة خفاش، بل يسير على قدميه وسطنا، ونحن نظنه بشرًا.
حين اقترب، سكن كل شيء. سكتت الريح، توقفت الطيور في السماء، وتخشبت الأجساد. الأطفال تجمّدوا، وكأن الزمن عُلّق، أو كأن الطقوس قرّرت أن تلتهمنا واحدًا تلو الآخر. في يده اليمنى موسى. ولكنها لم تكن شفرة فقط، بل مفتاحًا إلى الألم الأزلي. لم تكن تلمع، بل تشع بشيء أعمق من الضوء: إشعاع رعبٍ مكثّف. أما يده الأخرى، فكانت كالخطايا — تحمل الماضي، والموت، وكل ما لا يُغفر.
كان يتحرك بصمت الكهنة، ويقطع بدقة الحرفيين. لم يكن يقوم بعمله، بل يُمارس طقسًا قديمًا، كما لو أن كل ما حوله مقدّس — الدم، الصرخة، الطاولة، والسكين.
كنا نحدّق فيه كأننا نرى نهاية العالم في هيئة رجل. وكان يحدّق فينا كأننا أضاحي ينتظر أن يتذوّق أول صرخة منها. حين نظر إليّ...
شعرت أن جلدي ينسحب عن عظامي، وأن الطفولة تركتني قبل أن يلمسني. نظراته اخترقتني كما يخترق الضوء مرآةً مهشّمة. شعرت أنني رأيت فيه موتي القادم — موتًا رمزيًا لا يُدفن. موت البراءة. موت الإرادة. موت السؤال.
اقترب خطوة... وكل خطوة كانت كأنها قرع طبول في جنازةٍ لا نعرف من الميت فيها. كان الهواء يثقل، وقلبي يضرب طبوله كأنني على وشك الانفجار. اقترب أكثر، ولم يتكلم. لا كلمات، فقط وجوده كان يكفي لإسكات كل الحواس. أدركت في لحظتها أن ما سأواجهه ليس ألم الجسد، بل مواجهة مع هوية جديدة، هوية تصاغ تحت الشفرة، وتصنع من النزف ما يسمونه "رجولة".
كان كائنًا من ليلٍ طويل، يكتبنا من جديد. لا أعرف إن كان إنسانًا، أم فكرة، أم لعنة انتقلت من جيل إلى جيل. لكنني أعلم أن كل من مرّ على يده، خرج بشيء مفقود. نحن لم نعد كما كنا بعده. لا بضع لحومٍ قُطعت، بل قطعٌ في النفس لا تُخاط.
حين حملتني يداه، شعرت أنني خُذلت من العالم كله، وأن الصرخة التي كانت في داخلي لم تكن لي وحدي. كان هو... الكاهن، والساحر، والجلاد، والظل. هو المرآة التي رأت ضعفنا ولم ترحم. هو الرمز الذي أُلبسَ ثوب الطهارة، لكنه كان بوّابة الخوف الأكبر.
منذ تلك اللحظة، وأنا أرى وجهه في أحلامي، وفي انعكاسات المرايا، وفي عيون أطفالي حين يقترب منهم المجهول. كلما اقتربت من المرآة، أراه خلفي. كنت الضحية السادسة. كنت أراه يتقدم نحوي، لا يبتسم، لا يتكلم، فقط يقطع. رجل بلا اسم، بلا قصة، يُعيد نفس المشهد لكل طفل، كأنه يكرر حلقة من جحيم متلفز لا نهاية له.
حين حملني أعمامي — اثنان من دمي — لم أعد إنسانًا. صرت جمادًا يُساق إلى الطقوس، وطفلًا يُنزع منه الضوء. وُضعت على طاولة خشبية، صلبة كالمذبح، باردة كقبر طفل حديث الولادة.
"اصبر. لا تخف. ستكون رجلاً." قالوها، ولم يعلموا أن الرجولة الحقيقية لا تولد من الدم، بل من السؤال. رفعوا دشداشتي البيضاء — كأنهم يخلعون عني ستار السماء — وكشفوا العريّ الذي لم يكن عارًا، بل براءة. لم أصرخ حين بدأ، لكن حين دخلت الشفرة لحمي، انفتحت بوابة لم تغلق حتى اليوم. لم تكن صرخة فقط، بل كانت انفجارًا كونيًا. كأنني انقسمت إلى نصفين: نصف ظلّ هناك على الطاولة، ونصف آخر هرب إلى ظلال الغيب.
في اللحظة التي قطعوا فيها، لم يكن الألم في الجسد فقط. بل شعرت أن الزمن نفسه انشق، كأنني سقطت من جدول الساعة إلى نهرٍ لا يرحم. كانت الدقيقتان أطول من عمري كله. كنت هناك، أراقبني من الخارج، وأبكي صامتًا داخل جسد لم يعد لي.
وحين انتهى، لم أعد كما كنت. كنت قد عُدت — نعم — لكن شيئًا من الطفل القديم لم يعد معي. تركته هناك، فوق الطاولة. لم يكن يوم ختان. كان يوم قيامةٍ شخصية. أسبوع كامل من النزف، من الألم الذي لا يُقال، من الحريق في كل قطرة بول، من أمي التي تحاول تهدئتي بالسكر، ومن أبي الذي يعلن، بفخر، أنني صرت رجلاً.
لكنني لم أكن رجلاً. كنت كائنًا مكسورًا يحاول أن يتنفس دون أن يصرخ. كل ليلة، كنت أُطارد في أحلامي من ظلّ يحمل شفرة. يغير ملامحه، مرة يشبه الجزار، مرة يشبهني. ومع الوقت، لم يرحل. ظلّ يسكنني، يتربص بي في كل خلوة، يظهر في صمتي، في عينيّ حين أضحك، في ارتباكي حين أتكلم عن "الرجولة".
وسألت نفسي...
ولم أطلب جوابًا، فقط سألت:
•هل الرجولة قرار جسدي، أم رحلة روحية؟
•هل سأشفى يومًا من ذلك الصوت الذي لم يخرج؟
•لماذا لم يسألني أحد؟ لماذا لم يمنحني أحد حق الاعتراض؟
•هل كان الألم ضروريًا لأكون كما يريدون؟
أحيانًا... أسمع صوت الطفل السادس يصرخ. لا كذكرى بعيدة في ماضٍ غابر، بل كنبضٍ حيّ في هذا الحاضر، كصرخةٍ لم تكتمل بعد. ليس صوتي وحدي، بل هو صدى جيلٍ بأكمله، جيلٍ تعلّم مبكرًا أن يصمت حين يؤلم، وأن يبتسم حين يُنتزع منه شيء لا يفهمه.
ذلك الصراخ ليس اعتراضًا على الختان، بل سؤالٌ يتكرر في الأعماق:
من يشرح للطفل معنى الألم قبل أن يخوضه؟
ومن يربّت على قلبه وهو يُعلَّم أن الرجولة تبدأ من العتبة التي يُغلق عندها فمه وتُفتح فيها جراحه؟
أكتب... لا لأنني أملك الإجابة، بل لأن الحبر يشبه المُسكِّن الذي لم يُعطَ لي، والقصيدة تشبه الاعتراف الذي لم يُسمح لي أن أنطق به.
أكتب وكأنني أخيط الجرح بالكلمات، لا لألغي أثره، بل لأفهمه. لأفهم كيف تُصاغ الرجولة أحيانًا من الصمت، وكيف تُستدعى الطهارة بشكلٍ لا يفهمه الجسد ولا الروح، ثم يُطالَب كلاهما بالامتنان.
أنا لا أهاجم الختان، ولا أدّعي التمرد على العقيدة، لكنني أسائل أثر التجربة حين لا تُشرَح، وأتأمل كيف تُترك الندوب النفسية دون لغة تعبّر عنها.
فالإنسان، في جوهره، ليس مخلوقًا من لحمٍ وعظم فقط، بل من ذاكرةٍ ومغزى، ومن أسئلة لم يُسمح لها أن تُطرَح.
ذلك الطفل الذي يصرخ في داخلي، ربما لا يبحث عن إجابة، بل عن حضنٍ يعترف له بأنه تألّم، وعن صوتٍ يقول له: نعم، ما شعرت به كان حقيقيًا، وما كتمته، كان جزءًا من تشكّلك، لا ضعفًا.
كم هم محظوظون جيل أبنائي وأحفادي، لأنهم يجرون عملية الختان وهم في مستشفى الولادة، في عمر يوم أو أسبوع، وفي أقصى الحدود شهر أو شهران. تتوفر لهم كل الإمكانيات الطبية، والتخدير، والعناية، في ظل رعاية صحية تحفظ الجسد والكرامة.
أما نحن، جيل الطاولات الخشبية والعراء، فقد خُتِنّا على يد حلاقٍ لم يدخل كلية طب في حياته، دون مخدّر، دون شرح، دون حنان. جيلٌ تَكوّن على الطقوس، لا على الفهم.
ولأن لكل بداية أصل، فالختان ليس وليد عصرنا، بل يمتد إلى أكثر من ألفي عام، منذ عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام، وذُكر في القرآن الكريم، كعلامة على الميثاق والطهارة. ولكن بين الأصل الروحي والممارسة الجسدية، ثمة مسافة لا يُمكن أن تُجتاز إلا بالحكمة والرحمة والمعنى.