منذ صبيحة اليوم التالي لانتهاء مدة التهدئة الأولى، نفّذ بنيامين نتنياهو تهديده بوقف إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وكأن الشعب كله حماس، بمن في ذلك نحو مليون طفل وطفلة، بل أنه أعاد شاحنات الوقود التي كادت أن تدخل، وذهب نائب رئيس الكنيست إلى ما هو أبعد، بقصف مخازن الغذاء والأطعمة التي سبق وسمح لها بالدخول.
تمنّعت حماس أمام الوسيطين العربيين الوازنيين، مصر وقطر، طويلاً، أمام صفقة واحدة شاملة، تتضمن انسحاباً كاملاً ووقفاً دائما للعدوان، وتبادلاً كليا للأسرى، لكن الوسيطين العربيين بوعود من أمريكا بايدن وترامب على حد سواء، اقنعوا حماس بأن المرحلة الأولى ستقود حتما للثانية والثالثة، وهكذا كان، باستثناء ما توقعته حماس من أن إسرائيل سرعان ما نفضت يدها وأدارت ظهرها. ولهذا ذهبت إلى الإطلاق المتقطع للأسرى، واحتملت في سبيل الوصول إلى المرحلة الأولى خروقات إسرائيلية واضحة وجلية، أهمها على الإطلاق إدخال 20 بيت متنقل من أصل 60 ألفاً، والآن حماس لن تسمح لنفسها بتوقيع اتفاقية جديدة ستتطلب بعد تخليص خمسة أسرى، توقيع اتفاقية ثالثة ولربما رابعة، لطالما أن الوسطاء والضامنين لا يستطيعون تحريك أي ساكن إزاء هذه الخروقات وإزاء تبديل الاتفاقيات، بل يذهب بعضهم لغض الطرف عن المنتهكين، وتحميل المنضبطين مسؤولية الانتهاك والخرق.
اليوم نقف أمام واقع جديد وقديم في نفس الوقت، واقع أن إسرائيل تواصل ما انقطع حول الحصار التجويعي والتهديد بشن الحرب وقطع الماء والكهرباء. منذ انسحابها من قطاع غزة قبل عشرين سنة، ألم يدرك الفلسطينيون والعرب، أن هذا الانسحاب لم يكن انسحاباً؟ ألم يدركوا أنه كان حصاراً مشدداً براً وبحراً وجواً أكثر ضرراً مما قبل الانسحاب المزعوم؟ ألم يعايشوا القصف والتدمير في نصف دستة حروب على شعب محاصر، لا يستطيع منها النجاة أو الهروب؟ ألم يعانوا سياسة قطع الماء والكهرباء عنهم وعن شيوخهم وأطفالهم ؟
إن اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير شيء من هذا القبيل، وما هو قرار 242 الذي ينص على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967، لكنها فعلياً ما زالت تحتلنا حتى اليوم، و ما زال مفتاح الكهرباء وصنبور مياهنا في يدها. إن أكثر ما يجسّد استكمال دائرة السخرية الاستهانية الكاملة هو أن إسرائيل لا ترانا؛ (و حين أقرر رؤيتكم، فليس أكثر من سكان تقطنون أرضي الكبرى، من الضفة إلى غزة إلى غور الأردن إلى جنوب الليطاني اللبناني إلى جبل الشيخ السوري، إلى محور فيلادلفي المصري، إلى تبوك في الشمال السعودي، وعاصمتها الموحدة الأبدية أورشليم القدس). آخر ما حرر على صعيد استكمال دائرة استهانة السخرية الماكرة، اقتراح وقف النار خلال رمضان لكن بدون طعام، كي يصوم الناس ليل نهار.