يستمر تقرير وكالة S&P للتصنيف الائتماني في تسليط الضوء على التحديات العميقة التي تواجه الاقتصاد العالمي، محذرًا من اقتراب أزمة ديون سيادية جديدة. العالم قد يشهد ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الدول التي تتخلف عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية خلال العقد القادم، نتيجة لارتفاع مستويات الدين وتزايد تكاليف الاقتراض بشكل غير مسبوق. الأزمات الأخيرة، بما في ذلك جائحة كوفيد-19، الحرب الروسية الأوكرانية، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط مثل الوضع في غزة ولبنان، زادت من هشاشة الاقتصادات، مما يجعل الدول النامية والأقل استقرارًا هي الأكثر عرضة للانهيار المالي. بالإضافة إلى ذلك، توقعات ارتفاع أسعار النفط والذهب تزيد الضغط على الاقتصادات المتعثرة.
الأسباب الجوهرية للأزمة المتوقعة:
1. التضخم في مستويات الديون الحكومية:
شهدت العقود الماضية تضخمًا هائلًا في مستويات الديون السيادية، حيث اعتمدت الحكومات بشكل مفرط على الاقتراض الخارجي لتمويل العجوزات وضمان استدامة مشاريع التنمية. ومع بقاء معدلات الفائدة منخفضة لفترات طويلة، تراكمت الديون حتى أصبحت خدمة الفوائد عبئًا ثقيلًا على الكثير من الدول. ومع ارتفاع أسعار الفائدة، خاصة في الاقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة، تضاعفت تكاليف خدمة الديون، مما زاد من صعوبة قدرتها على السداد.
2.الأزمات الجيوسياسية والاقتصادية:
تسببت جائحة كوفيد-19 في انكماش اقتصادي عالمي غير مسبوق، ما دفع الحكومات إلى اقتراض مبالغ ضخمة للإنفاق على التحفيز الاقتصادي. الحرب الروسية الأوكرانية، بدورها، أدت إلى ارتفاع حاد في أسعار الطاقة والغذاء، مما أثر بشكل مباشر على اقتصادات الدول المستوردة، مما جعل مواجهة الالتزامات المالية أكثر صعوبة. كما أن التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، بما في ذلك غزة ولبنان، فاقمت من هشاشة المنطقة المالية.
3.التحديات الهيكلية في الدول النامية:
الدول النامية تعتمد بشكل كبير على الاقتراض الخارجي لدعم اقتصاداتها الهشة. هذه الدول غالبًا ما تعاني من مشكلات هيكلية مثل ضعف الأطر السياسية، وغياب استقلالية البنوك المركزية، وضحالة أسواق رأس المال. هذه العوامل تجعل من الصعب على تلك الدول تجنب التخلف عن السداد أو إعادة هيكلة الديون. وتعزز هذه التحديات احتمالية انهيار أنظمتها المالية إذا ما واجهت ضغوطًا خارجية قوية.
4.هروب رؤوس الأموال واستنزاف الاحتياطيات الأجنبية:
مع تزايد الأزمات المالية، تشهد بعض الدول هروبًا لرؤوس الأموال نحو ملاذات آمنة، مما يزيد من استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي. عندما تنخفض تلك الاحتياطيات، تتعقد قدرة الدول على الوفاء بالتزاماتها الخارجية أو المحافظة على استقرار عملاتها. هذا الهروب يؤدي إلى تفاقم العجز المالي ويزيد من احتمالية التخلف عن السداد.
صندوق النقد الدولي وتوقعات الدين العالمي
أفاد صندوق النقد الدولي أن الدين العالمي قد يتجاوز 100 تريليون دولار هذا العام للمرة الأولى، مع توقعات بارتفاع هذه الأرقام بمعدلات أسرع في ظل السياسات المالية الموجهة نحو زيادة الإنفاق. بحلول نهاية العام، من المتوقع أن يصل الدين إلى 93% من حجم الاقتصاد العالمي، مع توقعات بارتفاعه إلى 100% بحلول عام 2030، مما يتجاوز ذروة مستويات كوفيد-19 عندما وصل الدين إلى 99% من حجم الاقتصاد.
التحديات المستقبلية
يرى صندوق النقد الدولي أن مستويات الديون المستقبلية قد تكون أعلى بكثير من التوقعات الحالية. هذه الزيادة ستكون نتيجة للتوجهات الإنفاقية التوسعية في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ضغوطات أخرى مثل:
• شيخوخة السكان، التي تضيف أعباء مالية جديدة على الحكومات لتوفير الرعاية الاجتماعية والصحية.
• التحول إلى اقتصاد أخضر، الذي يتطلب استثمارات ضخمة للبنية التحتية المستدامة وتقنيات الطاقة المتجددة.
هذهىالعوامل تضيف إلى الضغوط التي تدفع بالديون الى الارتفاع المستمر، مما يطرح تساؤلات حول قدرة الدول على السيطرة على هذه المستويات في المستقبل القريب.
إعادة هيكلة الديون: التحدي المتزايد
إحدى القضايا الرئيسية التي تواجه الاقتصادات المتعثرة هي بطء وتعقيد عملية إعادة هيكلة الديون السيادية. مع تنوع الدائنين، بما في ذلك البنوك التجارية، صناديق التحوط، والمؤسسات السيادية، أصبحت عمليات التفاوض أكثر تعقيدًا. هذا البطء في التفاوض يعمق الآثار السلبية على الاقتصاد، مما يؤدي إلى ركود أطول وارتفاع معدلات التضخم، وهو ما يترك الدول المتعثرة في حالة من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستمرة.
الفرصة القادمة: انخفاض الفوائد
في ظل توقعات انخفاض أسعار الفائدة خلال الفترة القادمة، قد تظهر فرص للدول التي تعاني من عبء ديونها السيادية. هذه الفرصة تتيح للدول إمكانية إعادة هيكلة ديونها، وتحويل جزء من ديونها الخارجية إلى ديون داخلية لتقليل تكلفة خدمة الديون. لكن هذا التحرك يجب أن يرافقه تركيز كبير على تحسين العجز في ميزان المدفوعات من خلال زيادة الصادرات وتعزيز القطاعات الإنتاجية المحلية.
النظرة المستقبلية: سيناريوهات قاتمة مع فرص للتخفيف
توقعاتS&P وصندوق النقد الدولي تشير إلى أن العالم قد يواجه موجة جديدة من التخلف عن سداد الديون، خاصة في الدول ذات الاقتصادات الهشة. ومع استمرار الضغوط المالية، ستظل السياسات المالية التوسعية، والتوترات الجيوسياسية، والعوامل الهيكلية تؤدي إلى تفاقم الأزمة. إلا أن تضافر الجهود الدولية، مثل تدخلات صندوق النقد الدولي، قد يخفف من حدة الأزمة.
في النهاية، يُعد الوقت الحالي حرجًا للدول ذات المديونية العالية لإعادة تقييم أوضاعها المالية، والاستفادة من الفرص المتاحة لتخفيف أعباء الديون. تقليل الاعتماد على الديون الخارجية، وتحفيز الاقتصاد المحلي، وزيادة الصادرات، كلها خطوات حيوية لضمان استقرار الاقتصاد العالمي في مواجهة الأزماتالمقبلة.